التغاضي عن الهفوات
الحمد لله الذي : } لَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { ، أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ { . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، البشير النذير ، والسراج المنير ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد ، فيا عباد الله :
تقوى الله U ، وصية الله لعباده ، فهو القائل في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ، فلنتق الله - أحبتي في الله - جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
التغاضي عن الهفوات ، وغض الطرف عن الأخطاء والزلات ، إلا بهدف إقامة المسلم على الدين ، وجعله مطيعا لرب العالمين ، خلق إيماني عظيم ، وصفة إسلامية نبيلة ، يكفي - أيها الأخوة - في عظمتها ونبلها ، أن الله U ـ من كمال رحمته ، وتمام فضله ـ أنه ستير يحب الستر ، كما قال تعالى : } وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ، وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ { وفي آية أخرى يقول U : } وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ { ، فالله U ، يعفو عن السيئات ، ويعفو عن كثير مما يفعله الناس ، لأنه كما قال ابن عباس : إِنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ .
فيكفي - أيها الأخوة - بصفة التغاضي عن الهفوات ، عظمة ونبلا ، أنها فعل من أفعال الله U ، يقول عبدالله بن عمر ـ كما في الحديث الصحيح ـ عن رسول الله r : (( إِنَّ اللَّهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ )) أي يوم القيامة (( فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ ، فَيَقُولُ : أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ أي رَبِّ . حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ ، قَالَ : سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا ، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ . فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ )) .
أيضا - أيها الأخوة - التغاضي عن الأخطاء ، وعدم الفرح بالزلات والهفوات ـ كما يفعل كثير من الناس ، الذين ليس لهم شبه ، غير الذباب ، الذي لا ينزل إلا على القاذورات ـ أيضا هي صفة من صفات النبي r ، بل ضرب فيها r لنا أروع الأمثلة في تطبيقها والعمل بها ، فهو r النموذج الأعلى في الستر على الناس وعدم تعييرهم بأخطائهم ، ونقل هفواتهم والتحدث بها بين الناس , يقول خَوَّاتُ بن جُبَيْرٍ ، في حديث رواه الطبراني : نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r مَرَّ الظَّهْرَانِ ، قَالَ : فَخَرَجْتُ مِنْ خِبَائِي فَإِذَا أَنَا بنسْوَةٍ يَتَحَدَّثْنَ ، فَأَعْجَبْنَنِي ، فَرَجَعْتُ فَاسْتَخْرَجْتُ عَيْبَتِي ، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا حُلَّةً فَلَبِسْتُهَا وَجِئْتُ فَجَلَسْتُ مَعَهُنَّ ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ r مِنْ قُبَّتِهِ ، فَقَالَ : (( أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا يُجْلِسُكَ مَعَهُنَّ ؟ )) , فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ r هِبْتُهُ واخْتَلَطْتُ - أي ارتبكت - قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جَمَلٌ لِي شَرَدَ ، فَأَنَا أَبْتَغِي لَهُ قَيْدًا فَمَضَى وَاتَّبَعْتُهُ ، فَأَلْقَى إِلَيَّ رِدَاءَهُ ، وَدَخَلَ الأَرَاكَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ مَتْنِهِ فِي خَضِرَةِ الأَرَاكِ ، فَقَضَى حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأَ ، فَأَقْبَلَ وَالْمَاءُ يَسِيلُ مِنْ لِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ، أَوْ قَالَ : يَقْطُرُ مِنْ لِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ، فَقَالَ : (( أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ جَمَلِكَ ؟ )) , ثُمَّ ارْتَحَلْنَا فَجَعَلَ لا يَلْحَقُنِي فِي الْمَسِيرِ ، إِلا قَالَ : (( السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ ذَلِكَ الْجَمَلِ ؟ )) فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ تَعَجَّلْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، واجْتَنَبْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُجَالَسَةَ إِلَى النَّبِيِّ r، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ تَحَيَّنْتُ سَاعَةَ خَلْوَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَتَيْتُ الْمَسْجِدَ فَقُمْتُ أُصَلِّي، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ r مِنْ بَعْضِ حِجْرِهِ فَجْأَةً ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، وطَوَّلْتُ رَجَاءَ أَنْ يَذْهَبَ ويَدَعُنِي ، فَقَالَ: (( طَوِّلْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا شِئْتَ أَنْ تُطَوِّلَ ، فَلَسْتُ قَائِمًا حَتَّى تَنْصَرِفَ ))، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ لأَعْتَذِرَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r ولأُبْرِئْنَ صَدْرَهُ، فَلَمَّا قَالَ: (( السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ ذَلِكَ الْجَمَلِ ؟ )), فَقُلْتُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا شَرَدَ ذَلِكَ الْجَمَلُ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ : (( رَحِمَكَ اللَّهُ )) ثَلاثًا ، ثُمَّ لَمْ يُعِدْ لِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ .
فأي تغاضي وستر ، أعظم من ذلك - يا عباد الله - وأي نبي أرحم وألطف وأرأف من نبينا محمد r ، الذي شهد له الله U في كتابه ، بأنه على خلق عظيم ، كما قال تبارك وتعالى : } وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ { ولما سألت عائشة رضي الله عنها ، عن هذا الخلق العظيم ، قالت كما في الحديث الصحيح : كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ .
إذا - أيها الأخوة - ستر الناس ، والتغاضي عن أخطائهم ، أمر هو من الدين بمكان ، وميزة يتميز بها المؤمن، عن غيره من الناس ، ومن الأخلاق العظيمة النبيلة التي يجب أن يتحلى بها من أراد الله والدار الآخرة ، كما قال النبي r ، في الحديث الصحيح: (( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا وَوَقَعَتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وَلَمْ تَفْسُدْ )) فالنحلة تأكل الزهور ، وتضع العسل ، ولا تتكسر منها أغصان الشجر، فشبه النبي r المؤمن بها ، وخاصة في مجال أخطاء الناس، وزلاتهم وهفواتهم، لأنه من مقتضى إيمانه ، وحرصه على ما يضمن سلامة إخوانه، لا يقع إلا على ما طاب وحسن من أحوالهم ، فهو ينتقي الطيب ويدع الخبيث ، ويختار الحسن ويترك السيئ من أقوالهم وأفعالهم .
أيها الأخوة :
ولا شك أن التغاضي عن الهفوات، من الستر الذي بينت الشريعة فضله العظيم، وثوابه الجزيل في الدنيا والآخرة ، كما في الحديث الصحيح عن النبي r قال: (( مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا فِى الدُّنْيَا ، سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ )) وعن دُخَيْنٍ - كَاتِبِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - قَالَ: قُلْتُ لِعُقْبَةَ: إِنَّ لَنَا جِيرَانًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ فَيَأْخُذُوهُمْ، فَقَالَ: لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ، قَالَ: فَفَعَلَ ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، قَالَ : فَجَاءَهُ دُخَيْنٌ ، فَقَالَ : إِنِّي نَهَيْتُهُمْ ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ، فَقَالَ عُقْبَةُ : وَيْحَكَ ، لاَ تَفْعَلْ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ : (( مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُؤْمِنٍ ، فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا مَوْؤُدَةً مِنْ قَبْرِهَا )) .رواه الإمام أحمد وأبو داود .
فلنتق الله - أحبتي في الله - ولنغض الطرف عن هفوات إخواننا، إلا إذا كان من باب دعوتهم ونصحهم، ولنحذر كل الحذر من تصيد أخطائهم، وتتبع عوارتهم، ففي الحديث الصحيح عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ r الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: (( يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ ، وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ ، لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ ، وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ، تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِى جَوْفِ رَحْلِهِ )) .
أسأل الله U أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا ، واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
وهناك أمر هام يجب التنبه له ، وإخراجه من باب التغاضي عن الهفوات، والسكوت عن الزلات، ألا وهو : المجاهرة في المعصية، وتعدي ضررها على المسلمين في مجتمعاتهم ، فهذا لا يسكت عنه لتعدي ضرره، ولا يعني ذلك أن يكون وجبة دسمة في مجالسنا، إنما نتعاون لمنعه وإزالة خطره، بالتبليغ عنه، ومساعدة أهل الاختصاص لمنع شره، وفي الحديث الصحيح يقول النبي r: (( اجْتَنِبُوا هذهِ القَاذُوراتِ التي نَهَى الله عز وجل عَنْهَا ، فَمَنْ أَلَمَّ بِشَيءٍ منها : فَلْيَسْتتِر بِسِتْرِ الله عز وجل وليتب إلى الله ؛ فإنَّه مَن يُبْدِ لنَا صَفْحَتَه نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ الله ))
أيها الأخوة :
ونحن نتحدث عن أهمية التغاضي عن الهفوات ، يجدر بنا أن نشير إلى عظيم جرم ، من يتصيد أخطاء المسلمين ، نتيجة حقد في قلبه، أو لؤم في نفسه، أو خبث في طبعه ، فيجعلها طعما لضعاف العقول ، ليلتفوا حوله ، ويسلكوا منهجه، أو يروجها ويشيعها، مستعملا التقنية الحديثة، كوسائل الاتصال أو القنوات والمنتديات، وما أشنع وأبشع عندما يكون من تتصيد أخطاؤه عالما أو حاكما ، ففي الحديث الصحيح ، يقول r: (( أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ )) .
أسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، وسلامة دائمة ، إنه سميع مجيب. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء، واحشرنا في زمرة الأتقياء، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وعجّل بزوال الطغاة المجرمين، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120 |