للمتهاونين بفرض رب العالمين
الحمد لله ، السميع البصير ، والعليم الخبير ، } يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ ، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ { و } لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ { ، اللهم لا تجعلنا من الظالمين ، وأدخلنا في رحمتك ، يا أرحم الراحمين :
يَا من لهُ سترٌ عليّ جميلُ
هل لي إليكَ إذا اعتذرتُ قبولُ
أيّدتني وَ رحمتني وَ سترتني
كرَماً فأنتَ لمن رجاك كفيلُ
وَعصيتُ ثمّ رأيتُ عفوكَ واسعاً
وَعليّ ستركَ دائماً مسبولُ
فلكَ المحامدُ وَ الممادح في الثنا
يا مَن هو المقصود وَ المسؤولُ
اللهم استرنا في الدنيا والآخرة ، وأسبغ علينا نعمك الباطنة والظاهرة ، } رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ { . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، ولا شبيه ولا مثيل ، } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ { . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، البشير النذير ، والسراج المنير ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد ، فيا عباد الله :
تقوى الله U ، وصية الله لعباده الأولين والآخرين ، وخير زاد يتزود به العبد ، في حياته ، ليوم وقوفه بين يدي رب العالمين ، يقول U : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ويقول - تبارك وتعالى - : } وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
مضي الحول ، إلا في الخارج من الأرض ، شرط من شروط وجوب الزكاة ، فعند انتهاء العام ، يجب على المسلم ، الذي تجب عليه الزكاة ، أن يخرج زكاته ، لأن الزكاة ركن من أركان الإسلام ، لا يكمل إسلام المرء ، إلا بقيامه بجميع أركانه ، وهي خمسة أركان ومنها : الزكاة ، ففي الحديث الصحيح يقول r : (( بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ ((فالزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام ، وهذا يدل على أهميتها ، وجميع أركان الإسلام مهمة ، ولكن ذكرها بعد الشهادة والصلاة ، تجعل المسلم يجاهد نفسه الأمارة بالسوء ، ويغلبها ولا يستسلم لها عندما تسول له بأن ترك الزكاة ليس كترك الصلاة ، أو ترك الصيام ، وهذا - أيها الأخوة - ما بلي به كثير من المسلمين ، المتهاونين بشأن الزكاة ، تجدهم حريصون على الصلاة ، حريصون على صيام رمضان ، ولكن الزكاة ، ليست عندهم من الأهمية بمكان .
والدليل - أيها الأخوة - كثرة الفقراء والمساكين والمحتاجين ، في مجتمعات المسلمين ، الذين فرض الله U ، زكاة ما تفضل وأنعم به على الأغنياء ، لهؤلاء ، الذين سوف يسألون عنهم ، ويعاقبون لمنعهم حقا قد فرضه الله U لهم ، وسوف يكون عقابهم بما بخلوا به ، كما قال U : } فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ { فالذي لا يخرج زكاته ، هو الآن يجهز ، ويعد ، لما يعذب به غدا يوم القيامة ، فكلما جمع أكثر ، فليبشر بعذاب أكبر .
قد يضحك الشيطان على أحدهم ، فيقول وماذا ستفعل أموالي الكثيرة ، وكنوزي المتكدسة ، بجبهتي الصغيرة ، وبجنبي الضعيفة ، وبظهري القصير ؟ أقول : لا ، سوف يجعل الله لك جبهة وجنبا وظهرا ، يستوعب ما تستحقه من العذاب ، فيوم القيامة يختلف عن الدنيا ، ففي صحيح مسلم ، يقول النبي r : (( ضرسُ الكافر مثل أُحدٍ وغلْظُ جلْدِهِ مسيرةُ ثلاثٍ )) ، وروي عن ابن مسعود t قال : إنه لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدة . فيكفيك أخي ، وينجيك من هذا العذاب الأكيد ، لو أخرجت شيئا يسيرا من أموالك ، لا يتجاوز ربع العشر فقط ، يكون قوة ومتاعا وطعاما ، لفقير أو مسكين أو محتاج . وقد سئل أبو بكر الوراق : لم خص الجباه والجنوب والظهور بالكي؟ قال : لأن الغني صاحب الكنز إذا رأى الفقير قبض وجهه ، وزوى ما بين عينيه ، وولاه ظهره ، وأعرض عنه بكشحه .
فشأن الزكاة في الإسلام شأن عظيم ، لذلك - أيها الأخوة - قرنها الله U بالصلاة في كتابه في إثنين وثمانين موضعا وهذا مما يدل على عظم شأنها ، وأهمية القيام بها عند وجوبها ، فالغني بحاجتها ، والفقير بحاجتها ، والمسكين بحاجتها ، والمحتاج بحاجتها ، ولذلك - أيها الأخوة - في عهد أبي بكر الصديق t ، قاتل من أنكر هذا الركن العظيم ، ففي صحيح البخاري ، يقول أبو هريرة t : لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ r ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ ، قَالَ عُمَرُ t : يَا أَبَا بَكْرٍ ! كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : (( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ ، حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ )) . قَالَ أَبُو بَكْرٍ t: لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا . قَالَ عُمَرُ : فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ .
أيها الأخوة :
إن كثرة المحتاجين ، ووجود الفقراء والمساكين ، في مجتمعات المسلمين ، فيه دليل واضح ، على التهاون في شأن الزكاة ، أو التلاعب بها ، فلنتق الله - أحبتي في الله- ولنكن يدا واحده ، في سبيل تفعيل هذا الركن العظيم من أركان إسلامنا ، بالتواصي والتناصح والتعاون على البر والتقوى . } وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ { .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن في تأدية الزكاة ، والقيام بها ، سلامة للفرد والمجتمع ، يقول U في كتابه : }خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ { يقول ابن سعدي - رحمه الله - في تفسيره : } خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً { وهي الزكاة المفروضة ، } تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا { أي : تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة . } وَتُزَكِّيهِمْ { أي : تنميهم ، وتزيد في أخلاقهم الحسنة ، وأعمالهم الصالحة ، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي ، وتنمي أموالهم .
وفي الحديث الذي رواه الحاكم ، وقال عنه صحيح الإسناد ، يقول النبي r : (( وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا )) .
فالزكاة طهرة للفرد وللمجتمع ، إذا أعطيت الزكاة على الوجه المطلوب ، ونال الفقراء والمساكين والمحتاجون ، ما فرض الله لهم في أموال أغنيائهم ، فسوف تقل الجرائم ، لأن بعض المجرمين ، يرتكبون جرائمهم ، بسبب شدة حاجتهم ، والمجتمع إذا ساد فيه الفقر ، واشتدت الحاجة ، انتشرت فيه كثير من الجرائم ، كالسرقة والرشوة والغش ، بل والزنا والفجور والربا ، ولذلك - أيها الأخوة - في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز، والذي اعتبره المؤرخون خلفة راشدا، لصلاح الناس واستقامتهم في عهده ، فاض المال حتى لم يوجد من يأخذ الصدقة ؛ يقول عمر بن أسيد: والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم ، فيقول : اجعلوا هذا حيث ترون ، فما يبرح حتى يرجع بماله كله ، قد أغنى عمر الناس .
فلنتق الله - أحبتي في الله - ولنهتم بهذا الركن العظيم ، الذي وعدنا الله U ، إذا قمنا به ، جاءنا مثله أو أكثر منه ، يقول U : } وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ { ، ويقول سبحانه : } إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ { .
أسأل الله لي ولكم علما نافعا، وعملا خالصا، وسلامة دائمة، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى، والتقى، والعفاف والغنى، اللهم أحينا سعداء، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ، وعجل بزوال الطغاة المجرمين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا :
http://islamekk.net/catsmktba-120.html
|