خُطُورَةُ الرِّشْوَة
خطبة جمعة بتاريخ / 3-5-1434 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يُضلِل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، بلَّغ الرسالة ، وأدَّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، فما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه ، ولا شراً إلا حذَّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإنَّ في تقوى الله جل وعلا خلَفاً من كل شيء وليس من تقوى الله خلَف . وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله .
أيها المؤمنون: وباءٌ خطير وداءٌ فتَّاك إذا وُجد في مجتمع من المجتمعات وتفشى فيه كان سبباً لهلاكه وحلول العقوبات به ، لأنه يترتب عليه : ذهاب المروءات ، وضياع الحقوق ، وكثرة الظلم ، وتعدُّد الأذى ، إلى غير ذلكم من أنواع المضار التي تترتب على وجوده ؛ ألا وهو -عباد الله- : « الرشوة » وما أدراك ما الرشوة؟ وهي : مالٌ أو مصلحةٌ تقدَّم لرئيسٍ أو حاكمٍ أو موظفٍ ليُتوصَّل بدفعها إلى إحقاق باطل أو إبطال حق ، وهي أكلٌ لأموال الناس بالباطل وسُحتٌ وحرام ، وكلٌ من المعطي لها والقابض معرَّضٌ لمقت الله تبارك وتعالى وسخطه وعقوبته ، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:188] ؛ والإدلاء بها إلى الحكام : أي تقديمها لهم بحيث يقدِّم بعض ماله ليتوصَّل من خلال ذلك إلى أكل فريقٍ من أموال الناس بالباطل ، وقوله: ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ : أي أن ذلك لا يحل لكم وأنَّ الله تبارك وتعالى حرَّمه على الناس .
أيها المؤمنون عباد الله : والرشوة من خصال اليهود ومن صفاتهم التي عُرفوا بها ، قال الله تبارك وتعالى : ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ [المائدة:42] ، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة:62] ، والسحت في الآيتين في قول غير واحدٍ من السلف : الرشوة ؛ فكانت صفة لليهود يحرصون عليها ، بل إنهم اشتُهروا بها وعُرفوا بها . ولهذا فإنَّ تعاطي الرشوة -عباد الله- هو اتصافٌ بخصلةٍ من خصال اليهود وصفةٍ من صفاتهم الشنيعة .
أيها المؤمنون عباد الله : وإذا حلَّت الرشوة في مجتمع نُصِر فيه الباطل وأُبطل فيه الحق وتغيَّرت الموازين ؛ ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله : « إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوَّة » أي من النافذة .
نعم عباد الله ؛ كم من المضار الجسيمة والتعديات العظيمة التي تترتب على وجود الرشوة أخذاً لها وإعطاءً . روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي)) ، ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة وحديث ثوبان رضي الله عنهما ، واللعن أيها المؤمنون : طردٌ وإبعادٌ من رحمة الله ، ولا يكون إلا في عظائم الذنوب وكبائر الآثام .
ويقال عباد الله للرشوة « البرطيل » ، ولهذا يقال في المثل : « البراطيل تنصُر الأباطيل » أي أنها إذا وُجدت في مجتمعٍ من المجتمعات نصرت الباطل وأبطلت الحق وغيَّرت الموازين وأضرَّت بالناس أيُّما إضرار .
عباد الله : وتغيير الأسماء لا يغيِّر الحقائق والمسميات ، ولهذا لو سُميت كما هو حاصل في بعض المجتمعات لو سميت الرشوة « هديةً » أو « إكراميةً » أو نحو ذلكم من الأسماء فإن حقيقتها لا تتغير ، تبقى سحت ويبقى آخذها ومعطيها كلٌ منهما معرَّضٌ للعقوبة وحلول سخط الله تبارك وتعالى ولعنته . ولهذا أيها المؤمنون جاءت الشريعة بمنع الهدية للعمال -وهم الموظفين أياً كانوا - لأنها تفتح باب شر عظيم ، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي حُميدٍ الساعدي رضي الله عنه قال : « اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: ((مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ )) ، ثُمَّ رَفَعَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟)) مَرَّتَيْنِ » صلوات الله وسلامه عليه .
أيها المؤمنون عباد الله : إن الواجب على كل مسلم أن يحذر أشد الحذر من موجبات سخط الله وموجبات عقوبته ولعنته سبحانه ، وليأخذ نفسه في هذه الحياة الدنيا مأخذ الحزم بُعداً عن الحرام وتجنُّباً للآثام واتقاءً للشبهات ، فإن ((مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ)). أصلح الله أحوالنا أجمعين وهدانا إليه صراطاً مستقيما .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى ، أحمده جل في علاه بمحامده التي هو لها أهل ، وأثني عليه الخير كله لا أحصي ثناءً عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى .
عباد الله : روى البخاري في كتابه الصحيح موعظةً نافعة وكلمةً مؤثرة للصحابي الجليل جندب بن عبد الله رضي الله عنه ؛ قال : « إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ» . وما أعظمها من موعظة وما أجلَّها من وصية .
ثم أيها المؤمنون : ليتذكر كل واحدٍ منَّا أنه يوم القيامة سيُسأل سؤالان كلاهما عن المال : من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه؟ ويدخل في ذلك ما تقدَّم ألا وهو : إعطاء الرشوة أو قبضها . روى الطبراني في معجمه عن معاذٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ : عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟)) والعاقل يعِدُّ للسؤال جوابا ويجدُّ ويجتهد بأن يكون الجواب صوابا .
اللهم وفقنا أجمعين لصالح الأعمال وسديد الأقوال ، وأعذنا أجمعين من المحرمات والشبهات ، واحفظ علينا ديننا يا رب العالمين ، وأعذنا والمسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصُر من نصَر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم انصرهم في أرض الشام وفي كل مكان ، اللهم كن لهم ناصراً ومعِينا وحافظاً ومؤيِّدا ، اللهم احفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين ، اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم واحقن دماءهم يا ذا الجلال والإكرام . اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم .
اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.اللهم وفِّق ولي أمرنا لسديد الأقوال وصالح الأعمال يا رب العالمين ، اللهم وأصلح جميع ولاة أمر المسلمين ووفقهم لتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا ، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين ، اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثا ، هنيئاً مريئا ، سحًّا طبقا ، نافعاً غير ضار ، عاجلاً غير آجل ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وزدنا ولا تنقصنا ، اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأصلح لنا شأننا كله لا إله إلا أنت . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-125.html
|