ذَمُّ الإِسْـــــرَاف
خطبة جمعة بتاريخ / 5-4-1434 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يُضلِل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليلُه ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإنَّ من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:70-71]
أيها المؤمنون : خَصلةٌ ذميمة وخَلَّةٌ مشينة جاء ذمُّها في كتاب الله تبارك وتعالى والتحذير من فِعلها وذمِّ أهلها وبيان ما أعدَّ الله لهم من عقوبات في الدنيا والآخرة ؛ ألا وهي : الإسراف ، وفي القرآن الكريم ما يزيد على العشرين موضعاً في التحذير من الإسراف وذمِّ المسرفين .
- فأخبر الله جل وعلا أنَّه لا يحب أهل الإسراف ؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف:31] .
- وأخبر جل وعلا بأنَّ المسرفين هم أهل النار ؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [غافر:43] .
- وأخبر جل وعلا أنَّ الإسراف سببٌ لهلكة أهله وحلول العقوبة بهم في الدنيا والآخرة ؛ قال الله تبارك وتعالى : ﴿ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنبياء:9] ، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء:16] .
- وأخبر جل وعلا أنَّ الإسراف من تزيين النفس الأمَّارة بالسوء وتزيين الشيطان ؛ قال الله تعالى : ﴿ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [يونس:12] .
- وأخبر سبحانه وتعالى أنَّ الإسراف موجبٌ للحرمان من الهداية والتوفيق من الله جل وعلا ، قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر:28] ، وقال الله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر:34] ، والآيات في هذا المعنى عديدة .
أيها المؤمنون عباد الله ؛ والإسرافُ : مجاوزة القصد وحدِّ الاعتدال ، ولا يختص في باب النفقة كما هو شائع لدى كثيرٍ من الناس ، يقول إياس بن معاوية رحمه الله تعالى : «ما جاوزتَ به أمر الله فهو سَرَف» ؛ وعليه عباد الله فإنَّ الإسراف له صورٌ كثيرة وأنواعٌ عديدة ولا يختص في جانب النفقة والمطعم والمأكل .
vوإنَّ أخطر الإسراف وأشنعه : الكفر بالله رب العالمين والإشراك به باتخاذ الأنداد وتكذيب الرسل والنبيين ؛ قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه:127] .
vومن الإسراف : الإسراف في القتل ؛ بأن يُقتل غير القاتل ، أو أن يُتعَدَّى على ذوي القاتل ظلماً وبغيا ، أو أن يُتعدَّى على القاتل نفسه تمثيلاً وتجاوزاً وتعدِّيا ؛ فكل ذلكم إسرافٌ محرم ، قال الله تعالى : ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء:33] .
vومن الإسراف عباد الله : فِعل الفواحش واقتراف الرذائل ، ولذا قال لوط عليه السلام في نصحه لقومه وتحذيره لهم: ﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾ [الأعراف:81] ، وقال الله جل وعلا في ذكر سياق حلول العقوبة بهم : ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴾ [الذاريات:31-34] .
وعموماً أيها المؤمنون ؛ كل اقترافٍ للذنوب وارتكابٍ للخطايا والآثام فهو من الإسراف وصاحبه معرض للعقوبة .
وأما الإسراف في النواحي المالية والمطاعم والمشارب والملابس ونحو ذلك فبابٌ مشهورٌ معلوم ؛ قال الله تبارك وتعالى : ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف:31] . روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده بسندٍ صحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ)) . وروى البخاري في صحيحه تعليقا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال : «كُلْ مَا شِئْتَ وَالبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ »
أيها المؤمنون عباد الله : والإسراف في الأموال والمطاعم والمشارب والملابس هو كلُّ تعدٍّ في هذا الباب سواءً في سبُل تحصيلها أو في طرائق إنفاقها وبذلها ، فكل ذلكم يدخله الإسراف ؛ إذ إنَّ كل تجاوز لحد الشرع في ذلك سواءً اكتساباً لهذه الأموال أو إنفاقاً لها فهو من الإسراف وصاحبه معرض للعقوبة .
§ فأكل الربا والرشوة والميسر والتحايل على الناس وغشِّهم في البيع والشراء كل ذلكم إسراف في باب اكتساب الأموال .
§ وكذلكم عباد الله : تناول ما حرَّم الله من مأكل أو مشرب ؛ كتعاطي المخدرات وشرب الخمور وشرب الدخان ونحو ذلك كلُّ ذلكم من الإسراف ، فكم من أموال أُهدرت بيعاً وشراءً لهذه المحرمات ، وكل ذلكم من الإسراف وصاحبه معرض للعقوبة .
§ وفي باب الملبوسات -عباد الله -كم يقع الناس في صورٍ من الإسراف المحرمة يتعدَّون فيها حدود الله سواءً بلبس ألبسة محرمة في ذاتها ؛ كالذهب والحرير على الرجال ، أو بتجاوز حدِّ الشرع فيها كالإسبال في الثياب ولبس ثياب الشهرة ونحو ذلك ، فكل ذلكم من الإسراف المحرم وفاعله معرض للعقوبة .
§ ومن الإسراف عباد الله : الإسراف في المناسبات والاحتفالات ولاسيما مناسبات الزواج ونحو ذلك ؛ فكم يقع فيها من صور شنيعة من الإسراف ، ناهيك عما يقع من أفعالٍ محرمة وصورٍ منكرة وهي داخلةٌ في الإسراف وفاعل ذلك معرض للعقوبة .
والباب عباد الله بابٌ واسع يدركه كلُّ متبصِّر ويعرفه كلُّ متأمل .
ألا فلنتقِ الله ربنا جل وعلا ، ولنتذكر أن مردَّنا إلى الله ، وأننا سنقف بين يديه جل في علاه ، وأنَّه سائلنا سبحانه ؛ فلنعِدَّ للمسألة جوابا وليكن الجواب صوابا .
سدَّد الله خطانا أجمعين وأصلح لنا شأننا كلَّه ، إنَّه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمد الشاكرين ، وأثني عليه ثناء الذاكرين ، لا أحصي ثناءً عليه ، هو كما أثنى على نفسه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه .
أيها المؤمنون عباد الله : لقد دعا الله تبارك وتعالى في آية في القرآن - وُصفت بأنها أرجى آية في القرآن- عبادَه إلى التوبة إليه من الإسراف في كلِّ صوره وجميع أشكاله منبِّهاً عباده أنَّه سبحانه يقبل توبة التائبين وإنابة المنيبين مهما كان الذنب ومهما بلغ الجُرم ؛ قال الله تعالى : ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر:53] ، ومن الدعوات في القرآن الكريم : ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران:147] ، وثبت في صحيح مسلم أنَّ نبينا صلى الله عليه وسلم كان يقول بين التشهد والتسليم في صلاته : ((اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، وَمَا أَسْرَفْتُ ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) .
واعلموا -رعاكم الله- أنَّ أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثةٍ بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة ومن شذ شذَّ في النار .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد .
اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصُر من نصَر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم انصرهم في أرض الشام وفي كل مكان ، اللهم كن لهم ناصراً ومعِينا وحافظاً ومؤيدا ، اللهم احفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين ، اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم واحقن دماءهم ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم .
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحُول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا . اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ، ونسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ، ونسألك قلباً سليماً ولساناً صادقا ، ونسألك شكر نعمتك وحُسن عبادتك ، ونسألك من خير ما تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب .
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، ربنا إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-125.html
|