الإجازة والفراغ
الحمد لله الغفور ، الذي ستر بستره وأجمل ، الشكور الذي عمم ببره وأجزل ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، لا ينقص عزه ولا يتحول ، له الأسماء الحسنى ، والصفات العلى ، خاب من ألحد في أسمائه وعطل .
وأشهد أن لا إله هو ، كثير العطاء لا يبخل ، حليم على العصاة لا يعجل ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أفضل نبي وأكرم مرسل ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد : أيها المؤمنون :
اتقوا الله U ، بفعل أوامره ، والبعد عما نهى عنه ، فقد قال سبحانه وتعالى : ] وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [ فاتقوا الله يا عباد الله : ] يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [ ] اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ .جعلني الله وإياكم من عباده المتقين
أيها الأخوة المؤمنون :
من النعم العظيمة ، التي قد تحصل للإنسان في هذه الحياة ، المملؤة بالمشاغل ، المزدحمة بالكد والكدح : نعمة الفراغ ، ولا أدل على ذلك ، من قول النبي e في الحديث الصحيح : (( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ )) فالفراغ نعمة عظيمة ، بشهادة النبي e .
أن تكون ـ يا عبد الله ـ فارغا من مشاغل هذه الحياة ، وأتعابها ، وأعمالها ، هي ـ والله ـ نعمة ، ولذلك النبي r تذكيرا لنا بهذه النعمة ـ أعني نعمة الفراغ ـ ذكر هذا الحديث ، لندرك أولا قيمة هذه النعمة ، ثم نقوم بواجبها ، والذي منه : استغلالها واستعمالها بما يعود بالنفع دنيا وأخرى ، وإن لم يكن كذلك فإن المفرط بهذه النعمة سوف يكون في عداد المغبونين . نعم ، تأملوا قول نبيكم e : (( مغبون فيهما كثير من الناس )) أي أن الذين يوفقون لاستغلال نعمة الصحة ونعمة الفراغ ، قلة ، القلة هم الذين يسلمون من الغبن ، أما الكثرة ، أكثر الناس ـ والعياذ بالله ـ مغبون ، مغبون لماذا ؟ مغبون لتفريطه وعدم مبالاته في نعمة الصحة والفراغ ، مغبون لأنه لم يحسن استعمال الصحةِ والفراغ فيما ينبغي ، ولم يشكر الله U عليهما الشكر الواجب ، لأن الإنسان ـ أيها الأخوة ـ قد يكون صحيحا ولكنه مشغولٌ ، وقد يكون فارغا ولكنه مريض ٌ ، أما إذا اجتمع له الصحة والفراغ ، فقد جمع نعمتين من أجل النعم التي يستعين بها على العمل لآخرته ، وما يقربه لخالقه U ، أما ـ والعياذ بالله ـ إذا غلب عليه الكسل عن الطاعة ، أو استعمل تلك النعمتين ، في المعصية والضياع ، فإنه مغبون حقا ، لأن الفراغ يعقبه الشغل ، والصحة يعقبها السقم والهرم .
أيها الأخوة :
إننا في هذه الأيام ، نعيش بداية الإجازة ، حيث تفرغ كثير من الناس ، وخاصة الشباب ، لا سيما من هم على مقاعد الدراسة ، ذكورا وإناثا ، وهذا مما يزيد الأمر خطورة ، فإذا اجتمع الشباب والفراغ ، فلا تسأل عن ما يترتب على ذلك ، يقول أحدهم :
إن الفراغ والشباب والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
الفراغ ، والشباب ، والجدة ، يعني الغنى ، مفسدة للمرء ، هذا ما قاله هذا الشاعر قبل عشرات السنين ، قبل أن يكون هناك استراحات يستأجرها بعض الأحداث ، وصغار السن ، ليعكفوا بها على ما حرم الله ، وقبل أن يكون هناك مقاهي ـ أعزكم الله ـ للدخان ونحوه ، وقبل أن يكون هناك مقاهي للإنترنت . وقبل أن يكون هناك أنواع من المخدرات ، قبل أن يكون هناك جوالات ، يتبادلون من خلال شاشاتها الصور والأفلام الخالعة ، قبل أن يكون هناك سيارات تنقلهم من بلد إلى بلد ، وطائرات يسافرون من خلالها لبلاد الكفار وغيرهم . فقضية فراغ الشباب ، قضية خطيرة ، والاهتمام بها من أوجب الواجبات .
إذا كان الواحد منا ـ أيها الأخوة ـ يضع يده على قلبه ، وترتعد فرائصه من الخوف الشديد الذي ينتابه من بعض الشباب وقت انشغالهم ، فكيف بهم وقد تفرغوا ، كيف بهم والواحد منهم ينام النهار ، ويسهر الليل ، وقد توفر ت له سبل الفساد والانحراف بأشكالها وأصنافها وأنواعها .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن هذا الفراغ الذي سوف يمر به أبناؤنا ، إذا لم يغتنم بالخير ، فإنهم سوف يستعملونه في الشر ، ولنكن ـ أيها الأخوة صرحاء ـ أبناؤك إذا لم تشغلهم بالخير ، فإنهم سوف يجدون من يشغلهم بالشر .
ومن رعى غنما في أرض مسبعة
ونام عنها تولى رعيها الأسد
إذا لم نعمل على حفظ أوقاتهم ، واستغلالها واستثمارها بما ينفعهم دنيا وأخرى ، فإنهم سوف يقضون أوقاتهم بما يعود وبالا عليهم ، وعلينا نحن ، بل وعلى مجتمعهم وأمتهم
فينبغي لنا أن نرسم الخطط ، لهذا الفراغ الذي سوف يتخرج منه أبناؤنا إما بصلاح وإما بفساد . نعم أخوتي في الله ، ثلاثة أشهر ، كفيلة بأن تشكل حياة الشاب ، وترسم أوضاعه ، قد يحفظ فيها أجزاء كثيرة من كتاب الله ، وعددا كبيرا من أحاديث النبي e ، قد يلازم فيها درسا لأحد المشايخ ، فيصير طالب علم ، أو داعيا إلى الله تعالى .
ثلاثة أشهر، قد يلازم الابن والده ، والبنت أمها ، فيتعلمان منهما الكثير ، فالابن يتعلم معاني الرجولة ، ويتعود الاعتماد على النفس ، والبنت تتعلم من أمها ، مهام النساء ، لتعتمد على نفسها بعد ذلك .
وهذا قد يكون في هذه الأيام المقبلة المملوءة بالفراغ ، إذا استغلت استغلالا صحيحا ، وخطط لها تخطيطا سليما .
وأما إذا لم يخطط لها ، وترك الفتى والفتاة ، يسهر الواحد منهم طوال الليل عند القناة الفلانية ، لمتابعة برنامج ساقط ، وعند القناة الأخرى ، لمشاهدة مسلسل هابط ، وعند ثالثة ، لرؤية جسد عار ، وعند رابعة ، لرؤية ومشاهدة ما يجعل الشاب أحيانا يقع على محارمه ، فسوف تنتهي الإجازة ، بشهادة ذات تقدير عال في عالم الانحراف والضياع والفساد لكل شاب وشابة .
فلنعمل أيها الأخوة على استغلال أوقات فراغ أبنائنا ، ولنهتم في هذا الأمر ، الذي سوف نكون أول من يجني ثماره ، نعم أول من يجني ثماره ، مهما كانت هذه الثمار ، حلوة أو فاسدة ، لذيذة أو مرة : ) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( . بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
إن قضية الفراغ ، قضية مهمة ، يجب أن لا يستهان بها ، وأن لا يغفل عنها ، ولا أدل على ذلك ، من الاعتناء بها في كتاب الله U ، ومن حرص النبي e عليها ، وأمره باغتنامها وحثه على استغلالها .
يقول جل جلاله : ) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ( . ويقول e : (( اغتنم خمسا قبل خمس ، حياتك قبل موتك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وشبابك قبل هرمك ، وغناك قبل فقرك )) فذكر منها الفراغ قبل كثرة المشاغل .
أيها الأخوة المؤمنون :
وهناك حقيقة لابد من قولها والاعتراف بها ، وهي أن فاقد الشيء لا يعطيه ، ولا يجني من الشوك العنب ، فو الله الذي لا إله غيره ، لن نعمل على حفظ أوقات أبنائنا ونحن مفرطون في أوقاتنا ، فلنكن قدوات خير لا قدوات سوء ، في كل شيء ، لا سيما في قضية الوقت والفراغ .
أيها الأخوة :
إن الاهتمام في الوقت ، من صفات الصالحين ، والتفريط فيه وإضاعته ، من أبرز عادات المفرطين ، فالله الله في حفظ أوقاتكم ، فالواحد منكم ما هو إلا أيام ، كلما ذهب يوم ذهب بعضه ، تقول رابعة : يا سفيان : إنما أنت أيام معدودة ، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك ، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل ، وأنت تعلم فاعمل . ويروى عن وهب ابن منبه ـ رحمه الله ـ أنه قال : ينبغي للعاقل أن لا يشغل نفسه عن أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه . وساعة يحاسب فيها نفسه . وساعة يخلو فيها هو وإخوانه والذين ينصحون له في دينه ، ويصدقونه عن عيوبه . وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاته فيما يحل ويحمد ، فإن هذه الساعة عون لهذه الساعات ، وفضل بلغة واستجمام للقلوب . اسأل الله U أن يعينني وإياكم على حفظ أوقاتنا ، واستغلال فراغنا بما يفيدنا وينفعنا ، وأن يجعل الحياة زيادة لنا من كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر إنه سميع مجيب . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء يا رب العالمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|