إليك عني
الحمد لله المتوحد في جلال البهاء ، العليم بالأشياء ، ينزل من فضله على من يشاء ، أحمده سبحانه تعالى عن الأضداد والأنداد والقرناء .
جل رب أحاط بالأشياء واجد ماجد بغير خفاء
جل عن شِبهٍ له ونظيرٍ وتعالى حقا عن القرناء
ما على بابه حجاب ولكن هو من خلقه سميع الدعاء
لذ به أيها الغفول وبادر تحظ من فضله بنيل العطاء
اللهم إنا نلوذ ونعوذ بك ، ونسألك أن تغفر ذنبنا ، وترحم ضعفنا ، وتجبر كسرنا ، إنك على كل شيء قدير .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لاشريك له تعالى وجل عن الصاحبة والأولاد والشركاء .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، خير من أقلت الأرض وأظلت السماء ، صلى الله عليه وعلى آله ، وعلى أصحابه الأوفياء ، وسلما تسليما كثيرا ، إلى أن يرث الله الأرض والسماء .
أما بعد ، عباد الله :
اتقوا الله U ، بفعل أوامره وبالبعد عما نهاكم عنه فقد أمركم بذلك ربكم فقال : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
روي عن زيد ابن أرقم ، إن أبا بكر t ، استسقى ، فأتي بإناء فيه ماء وعسل ، فلما أدني من فيه بكى وأبكى من حوله ، فسكت وما سكتوا ، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أن لا يقدروا على مسألته ، ثم مسح وجهه فأفاق ، فقالوا : ما أهاجك على هذا البكاء ؟ قال t كنت مع النبي e وهو يدفع عنه شيئا (( إليك عني ، إليك عني )) ولم أر معه أحدا ، فقلت : يا رسول الله أراك تدفع عنك شيئا ، ولم أر معك أحدا ! قال e : (( هذه الدنيا تمثلت لي بما فيها ، فقلت لها : إليك عني ، فتنحت وقالت : أما والله إن أفلت مني لا يفلت مني من بعدك )) فخشيت أن تكون قد لحقت بي ، فذاك الذي أبكاني .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن هذه الحادثة ، تبين خطورة الدنيا وحقارتها ، و تحذر كل من تسول له نفسه ، من أن يركن إليها ، أو يعظم شأنها ، أو يجعلها هدفا له في حياته ، يقول تبارك وتعالى : } فَأَمَّا مَنْ طَغَى ، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى { .
نعم ـ أيها الأخوة ـ كثير هم الذين يتعلقون بهذه الدنيا ، ويعتبرونها كل شيء في حياتهم ، وما ذلك إلا نتيجة جهلهم ، وعدم فقههم ، وبعدهم عن تعاليم شرع ربهم ، يفرحون بمناصبها ، وتعجبهم مظاهرها ، وتسرهم زخارفها ، وما هي إلا دنيا حقيرة مهينة ملعونة كما قال النبي e ، في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة t حينما قال e : (( الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها ، إلا ذكر الله تعالى ، وما والاه ، وعالما أو متعلما )) .
وليس هناك ـ أيها الأخوة ـ أحد أعلم بالدنيا من خالقها ، ومكونها ، الله سبحانه ، هل هناك أعلم بالدنيا وحقيقتها من الله U ؟ كلا . فاسمعوا ماذا يقول عنها، وبماذا يصفها ، يقول U : } اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ { آية عجيبة ، يغفل عنها المتعلقون بالدنيا ، المغرورون بمناصبهم ، المخدوعون بأموالهم وجاههم ، } اعْلَمُوا { أي تيقنوا ، } أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا { أي عمرك أيها الغافل ، عدد الأعوام التي تقضي وتمضي في هذه الحياة ، نعم ، ليس لك من هذه الدنيا ، إلا عمرك ، الذي لا يعتبر شيئا أبدا ، إذا قارنته ، في عمر الدنيا أو في مقدار يوم من أيام القيامة . يقول U ، مبينا لنا كيف ينظر المجرمون ، لما امضوا من أعمارهم في حياتهم ، فيقول تعالى في سورة طه ، } يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ، يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً { يتهامسون بينهم بصوت خافت ، يقول بعضهم لبعض ، ما بقيتم في الدنيا إلا عشرة أيام ، لقصر المدة وسرعة مرور الزمن .
فعمرك في هذه الحياة ، لا يقارن بما ينتظرك يوم القيامة ، القليل لا يقارن بالكثير ، لا مقارنة أبدا بين ستين سنة أو سبعين أو ثمانين أو اقل أو أكثر ، وآخرة سرمدية أبدية ، يقول U يخبر عن مقدار يوم من أيامها : } وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ { فيوم من أيام القيامة كألف سنة من سني الدنيا .
أيها الأخوة المؤمنون :
وفي الآية يبين U حقيقة الدنيا بأنها لعب تشغل الأبدان ، ولهو تذهل القلوب ، وزينة تخدع العيون ، وتفاخر وتكاثر بالأولاد والأموال ، وصفتها صفة المطر ، الذي يعجب الزراع نباته ، وما هو إلا أيام وإذا به كما قال تعالى : } يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً { ينتهي ويزول ، ولكن أمر الدنيا لاينتهي ، إنما تبعاته تجنى يوم القيامة وكما قال تبارك وتعالى : } وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ {
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
إن هذه الدنيا الفانية الزائلة ، الحقيرة المهينة ، الغارة الخادعة ، كما وصفها بعضهم : دار بالبلاء محفوفة ، وبالفناء موصوفة ، كل ما فيها إلى زوال ، بينما أهلها فيها في رخاء وسرور ، إذ صيرتهم في وعثاء ، ووغر العيش فيها مذموم ، والسرور فيها لا يدوم ، فكيف يدوم عيش تغيره الآفات ، وتنوبه الفجيعات ، وتسوق أهله إلى المنايا ؟! إنما هم فيها أغراض مستهدفة ، والحتوف لهم مستشرفة ، ترميهم بسهامها ، وتغشاهم بحمامها .
فاتقوا الله يا عباد الله ، واحذروا الدنيا ، فكم من مغرور دنت إليه فرفعته ، ثم دالت عليه فوضعته ، والسعيد من وعض بغيره ، اسأله سبحانه أن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا إلى النار مصيرنا وأن يرحمنا برحمته فهو أرحم الراحمين .
ألا وصلوا على البشير النذير ، والسراج المنير ، فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير ، فقال جل من قائل عليما : } إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً { وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ يقول e : (( من صلى علي صلاة ، صلى الله عليه بها عشرا )) وفي الحديث الحسن يقول e : (( أولى الناس بي يوم القيامة ، أكثرهم علي صلاة )) فاللهم صلي وسلم وزد وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وارض اللهم عن التابعين ، وتابعي التابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بعفوك وجودك ورحمتك يا أرحم الراحمين .
الله إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم واحمي حوزة الدين ، واجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا واستعمل علينا خيارنا واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين .
اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور وبعمل متقبل مبرور .
اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، انت الغني ونحن الفقراء إليك ، اللهم لا غنى بنا عن رحمتك ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريعا سحا غدقا عاجلا غير آجل نافعا غير ضار ، اللهم اسق عبادك وبهائمك ، وانشر رحمتك على بلدك الميت ، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، الله أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|