ماذا قدمت لغد ؟
الحمد لله الكريم المنان ، ذي الرحمة والغفران ، والفضل والإحسان ، وعد من خافه جنتان ، } ذَوَاتَا أَفْنَانٍ { وتوعد من عصاه بجهنم ، يطوف بينها وبين حميم آن . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، جعل الإحسان جزاء للإحسان . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ { وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، بعثه رحمة للإنس والجان ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U وصية الله لنا ولمن كان قبلنا ، فهو القائل سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ
عليكَ بتَقوى اللّه في كل أمرِه
تجد غبها يوم الحسابِ المطَّولِ
ألا إِن تقوى اللّه خيرُ مغبةٍ
وأفضلُ زادِ الظاعنِ المتحملِ
ولا خيرَ في طولَ الحياةِ وعيشِها
إِذا أنتَ منها بالتقى لم ترحلِ
فاتقوا الله U ، يقول سبحانه : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ { فتقوى الله ـ أيها الأخوة ـ هي وصية الله لخلقه ، وهي خير زاد يتزود به المرء لمعاده ، وفي هذه الآية الكريمة ، يأمر U عباده المؤمنين : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ { أي أفعلوا ما أمرتم به في كتابه وسنة نبيه محمد e ، واستعدوا بالأعمال الصالحة ، التي تنفعكم يوم القيامة ، واحرصوا على ما يبعدكم عن النار وما يكون سببا لدخولكم الجنة ، ولذلك يقول ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية : وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه .
أيها الأخوة المؤمنون :
ماذا قدمنا لغد ؟ سؤال ينبغي لكل واحد منا أن يسأله نفسه ! عبد الله ! ماذا قدمت لغد ؟ لقد عشت عددا من السنين ، وجمعت كثيرا من الأموال ، وبذلت جهودا مضنية ، فكم جعلت من ذلك لغد ؟ الذي أمرك الله U بالتقديم له ، وسماه بغد لقربه وسرعة حلوله .
نعم ـ أخي المسلم ـ غدا هو يوم القيامة ، يوم الثواب والعقاب ، يوم وزن الأعمال ومن ثم الجنة أو النار، فماذا قدمت له ؟ يقول عنه U : } يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا { ويقول عنه أيضا : } يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ { ويقول عنه سبحانه : } يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ، يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا { هذه بعض الأحداث التي ستحدث في غد ، الذي أمرك الله U بالتقديم والاستعداد له .
نعم ـ معشر الأحبة ـ لقد أدرك العقلاء أهمية ذلك اليوم ، فلم يدخروا جهدا في سبيل التقديم له ، فجعلوا أوقاتهم ، وأعمالهم ، واهتماماتهم كلها من أجله ، فالرسول e الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قام الليل حتى تفطرت قدماه ، استعدادا وتقديما لغد ! وأبو بكر الصديق t ، أنفق له كل ماله ، ولما سأل ماترك لأهله ؛ قال تركت لهم الله ورسوله ، وعمر بن الخطاب حمل الدقيق على ظهره ، ليعد الطعام للأيتام ، وعثمان جهز الجيش من حر ماله ، وعلي نام في فراش الرسول e فداء له عن القتل ، كل ذلك تقديما لغد ، فلا ينبغي ولا يليق بمسلم أن يخادع نفسه ، فيزعم أنه قدم لغد ، وما غدا عنده إلا آخر اهتماماته .
أيها الأخوة :
والله لو كان غدا هذا ، وظيفة ، أو ترقيه ، أو منصب ، أو قطعة أرض في موقع مميز ، لأدركنا كيف نقدم له ، ولكننا خف يقيننا بغد وما يحصل لنا فيه ، فكانت النتيجة أوضاع مزرية ، وغفلة خطيرة ، وإعراض منقطع النظير ، تلاشت معه ومن خلاله من حياتنا كثير من العبادات المؤهلة للتقديم لغد !
أين الإيثار في حياتنا ، أين ـ أيها الأخوة ـ المحبة التي لا تكون إلا من أجل الله ، أين الإنفاق في سبيل الله ، أين الصيام والقيام ، الذي لا نعرفهما إلا في شهر رمضان ، وعلى مضض ، أين صلة الرحم وإكرام الجار ، أين وأين ، أمور كثيرة تلاشت من حياة أكثرنا بسبب نسيان غد هذا ، مع تعلق خطير ، وإقبال منقطع النظير ، علي دنيا حقيرة ملعونة فانية ، وحطام زائل !
فنحن ـ أيها الأخوة ـ بحاجة لمراجعة أنفسنا ، وتلاوة كتاب ربنا بتدبر ، وخاصة مثل هذه الآية الكريمة ، لنقدم لغد الأعمال الصالحة التي تقربنا من الله U ، وتكون سببا لبعدنا عن النار ، ودخولنا الجنة برحمة الله تعالى .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله ، لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، واشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
هناك عبادات جليلة ، و قربات عظيمة ، ينبغي للمسلم أن يحرص عليها في حياته ، ليقدم لغده ، وتكون وسيلة لرفع درجاته ، وإعلاء منزلته ، في يوم أمره الله U بالتقديم له ، وهذه العبادات ، وتلك القربات يستحيل أن تخفى على من جعل همه رضا خالقه ، والفوز بالجنة والنجاة من النار !
إننا نرى ـ أيها الأخوة ـ كيف نبحث عن الأسباب التي من خلالها نحصل على أمر من أمور الدنيا ! فحري بنا أن يكون هذا الحرص ، وذلك البحث ، من أجل ما يسعدنا يوم القيامة ، الذي يقول عنه U : } ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ، وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ، يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ { غير مجذوذ أي غير مقطوع ، نسأل الله U من فضله .
أيها الأخوة :
التقديم لغد ، يكون بالأعمال الصالحة ، وما أكثرها تيسيرا من الله جل جلاله ، ولكن من أبرزها ـ أخوتي في الله ـ الوقف ، وهو حبس الأصل وتسبيل المنفعة ، والذي لا يقوم به إلا صاحب قلب ذاق حلاوة الإيمان ، وانتشرت في أرجائه نفحات اليقين والتصديق ، ولا يحرص عليه إلا من حرص على غيره من الأعمال الصالحة ، ولا يقوم به إلا من قام بغيره مما يقرب إلى الله تعالى ، وكما قال U : } لن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ { وفي الحديث الصحيح عن أنس t قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلاً بالمدينة وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي e يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت } لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ { قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله تعالى يقول : } لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ { وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى فقال رسول الله e : (( بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين )) فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه .
أيها الأخوة :
بعض الناس لجهله ، يعتقد أن الوقف لا يكون إلا بالفلل الفاخرة ، أو المشاريع العملاقة، ولذلك لا يضع الوقف في حساباته ، والوقف كما قال ابن جبرين رحمه الله : يصح في العقار والمنقول كالمنازل والمساجد والدكاكين والبساتين ، وكذا في الأسلحة والبهائم والسيارات والأواني والأكسية وما أشبهها إذا سُبلت على من ينتفع بها من المستحقين كان الأجر للذي وقفها مستمرا ما دامت باقية وفيها منفعة تجري لمن أوقفها، ويُشترط أن تكون العين مما يُنتفع بها مع بقائها كقدور للطبخ وأواني للشرب، ويدخل في ذلك الأدوات الجديدة كالبرادات والمُكيفات والمراوح والفُرش ومُكبرات الصوت والآلات الكاتبة والسرر والكراسي والأحذية والأكسية ، وكذا تسبيل الأشجار التي فيها ثمار تؤكل وتسبيل الآبار والدِّلاء والمضخات، وإجراء الأنهار وموارد المياه والحياض والبرك التي تشرب منها الدواب والناس ويتطهر منها للصلوات وما أشبه ذلك .
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنحرص على ما ينفعنا يوم القيامة ، وكما قال U : } وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ { اسأله U أن يصلح أحوالنا ، وأن يجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين إنه سميع مجيب .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها يارب العالمين .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم اهدِ ضال المسلمين ، اللهم أصلح أحوال المسلمين ، وارزقهم الفقه في هذا الدين ، اللهم جنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن ، واجعلهم هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين ، اللهم أنج عبادك المستضعفين ، وانصر المظلومين ، اللهم أنجهم في سوريا ، اللهم قيض لهم من يحكمهم بكتابك وسنة نبيك محمد e .
اللهم عليك بمن ظلمهم واستضعفهم وقتلهم ، اللهم عليك به وبجنده وزمرته ، اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا .
اللهم لا ترفع له رأيه ، ولا تحقق له غاية ، واجعله لأمثاله عبرة وآية . اللهم عليك به وبمن ساعده وسانده ، وعليك به وبمن أمده وأيده ، ياقوي يا عزيز .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريعا سحا غدقا ، عاجلا غير آجل ، نافعا غير ضار ، غيثا تغيث به البلاد والعباد ، وتسقي به الحاضر والباد ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالأمطار ، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{
|