وعد الله
الحمد لله الهادي
إلى سبيل الرشاد ، يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، ومن يهدي فلا مضل له ، ومن يضلل
فماله من هاد .
أحمده
حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، } جَامِعُ
النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ { .
وأشهد أن
لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله رحمة
للعباد ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U وصية الله لكم ولمن كان قبلكم ، يقولU : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ
{ فاتقوا الله ـ عباد الله ـ } وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَحْتَسِبُ { ، } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا { ، } ومَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا { ، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
وعد الله U والتصديق به ، قضية يجب على المسلم أن يقف عندها ، وأن يحاسب نفسه
عليها ، وأن يراجع إيمانه كلما رأى تقصيرا في جانب عبادة ربه ، فعلى ضوئها يكون
عمل الإنسان في هذه الحياة ، فكل ما زاد ميزان تصديق الإنسان بوعد الله ، زاد قربة
وطاعة لله U ، وكل ما خف ميزان تصديقه ، كلما ازداد تعلقا بهذه الدنيا ، وبعدا
عن الله جل جلاله !
إننا نرى ـ أيها الأخوة
ـ كيف يقبل الناس على أمور الدنيا ، ونلمس مدى تنافسهم على حطامها ، الذي لا يضمن
أحيانا ، ولكن أين هذا التنافس ، وذلك الإقبال على ما وعد الله جل جلاله .
أيها الأخوة :
فتصديق وعد الله U ، قضية مهمة ، تميز من خلالها ، وعرف بها ، أصحاب النبي e ، بل هي المحك الحقيقي ، عندما يكون الخيار بين الكفر والإيمان ،
وبين التصديق والتكذيب ، وهذا الأمر هو ما انفرد به الطائعون عن العصاة ،
والمؤمنون عن المجرمين .
أيها الأخوة :
في عهد النبي e ، حينما انتصر المجوس على الروم ، وجد المشركون الفرصة للتشكيك
بكتاب اللهU ، فقالوا للمسلمين ، إنكم تزعمون أنكم ستغلبوننا
بكتابكم الذي أنزل إليكم ـ يقصدون القرآن ـ وهاهم الروم نصارى أهل كتاب وغلبتهم
المجوس الوثنيون الذين لا كتاب لهم ، هكذا قال المشركون ـ أيها الأخوة ـ ليشككون
المسلمين في كتاب الله U ، فأنزل الله U قوله : } الم ، غُلِبَتِ
الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ،
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ { فأخبر ووعد U ، بأن الروم سوف تغلب الفرس بأقل من عشر سنين ـ بضع سنين ـ البضع
من الثلاث إلى التسع ، بل أخبر U أن اليوم الذي ينتصر فيه الروم على الفرس ، سوف يكون يوم نصر
للمؤمنين ، فماذا كان حال الصحابة مع هذا الوعد ؟
روى الترمذي أنه لما نزلت هذه الآيات خرج أبو بكر الصديق t يصيح في نواحي مكة ويتلوها ،
فقال ناس من قريش لـأبي بكر : فذلك بيننا وبينكم ، زعم صاحبك أن الروم ستغلب
فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال : بلى . وتراهنوا. ولقد صدق الله
وعده ، حيث تمت للروم الغلبة على الفرس بإجماع المؤرخين في أقل من تسع سنين ، وليس
كذلك فقط ، بل كان يوم نصرها ، هو اليوم الذي وقع فيه النصر للمسلمين على المشركين
في غزوة بدر الكبرى ، كما روى ذلك الترمذي عن أبي سعيد t : نصر من الله سبحانه وتعالى في يوم بدر يوم الفرقان يوم التقى
الجمعان ، مواكب لنصر وقع للروم على
الفرس
، وكل هذا من معجزاته e ونصرة الله له .
فوعد الله U حق وصدق ـ أيها الأخوة ـ ، كما قال تبارك وتعالى : } وَعْدَ
اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا { وكما قال U : } وَعْدَ
اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ { .
أيها الأخوة المؤمنون :
فنحن بحاجة لمراجعة
أنفسنا ، في هذا الجانب العظيم ، الذي ما أوتينا إلا من بابه ، وما أصابنا ما
أصابنا إلا من أسبابه ، وصدق الله : } وَعْدَ
اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ { فما يحل بأكثرنا من ألم وشقاء وبؤس وعنت ، ونكد عيش ، سببه مخالفة
أمر الله U ، نتيجة عدم التصديق بوعده ، كما قال تبارك وتعالى : } فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ
الْيَوْمَ تُنسَى ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ
رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى { فهذا وعد من وعود الله U ، الذي يتبع هدى الله ، ويلتزم
بشرعه ، لا يمكن أن يضل ، ويستحيل أن يشقى ، ولكن من أعرض عن كتاب الله ، كما قال
ابن سعدي في تفسيره ، فإن معيشته تكون ضنكا ، بسبب كثرة همومه ، وتنوع غمومه ،
وتعدد كربه ، وغير ذلك مما ينكد عليه معيشته .
فلنتق
الله ـ أحبتي في الله ـ ولنراجع أنفسنا في باب التصديق بوعد الله سبحانه.
اسأله U أن يرزقنا التصديق واليقين بوعده ووعيده ،
إنه سميع مجيب .
أقول قولي
هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد
لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، واشهد أن لا إله الله وحده لا
شريك له تعظيما لشأنه ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله
عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن وعد الله U ، والتصديق به يحتاج لمزيد من اليقين ، ولن يتحقق إلا من قبل قلب
مفعم بالإيمان ، أما ضعاف الإيمان ، الذين هم في غفلة عن الآخرة ، الذين وصفهم
الله U بالكثرة ، والجهل والتعلق بالدنيا ، كما قال تبارك وتعالى : } وَعْدَ اللَّهِ لا
يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ،
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ
غَافِلُونَ { فإنهم لن يصدقوا بوعد الله ، وسوف يكذبونه إما بلسان مقالهم أو حالهم .
والله الذي لا إله غيره ، لو صدقنا بوعد الله ، لتغيرت كثير من أحوالنا ، بل وحال
أمتنا ، فلنتق الله U ، ولا نغالط أنفسنا ، ولنضحي بكل شهوة تبعدنا عن خالقنا ، ولنحذر
كل شبهة تتسلل إلى قلوبنا بسبب هذه الدنيا الفانية الزائلة .
امرأة ضعيفة ـ أيها
الأخوة ـ تلقي بجنينها في النهر تصديقا بوعد الله U ، كما قال تبارك وتعالى : } وَأَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي
الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ { فليكن هكذا التصديق بوعد الله eمنا ، ونحن
نأمل التمكين في الأرض ، ومعية الله U ونصره ، وحمايتنا من أعدائنا ، يقول سبحانه : } وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم
فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ { ويقول تبارك وتعالى : } فَانتَقَمْنَا
مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ { ويقول سبحانه : } إِنَّ
اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ
خَوَّانٍ كَفُورٍ { .
أيها الأخوة :
دخول الجنة لا يكون إلا
بطاعة الله U ، والبعد عن معصيته ، لا يكون إلا بالتقوى ، المترتبة على التصديق
وعدم الشك بوعده ووعيده ، كما قال تبارك وتعالى : } مَثَلُ
الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ
آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ
خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ
فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ
فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ { .
اسأله U أن يجعلني وإياكم من عباده المتقين ، اللهم
آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولها ، برحمتك يا أرحم
الراحمين . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى . اللهم أحينا سعداء
وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء يارب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي
هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها
معادنا ، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا ،
اللهم لا تجعل مصيبتنا
في ديننا ، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر،
اللهم اختم لنا بخير واجعل عواقب أمورنا إلى خير وتوفنا وأنت راضٍ عنا.
اللهم
إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، اللهم اسقنا الغيث ولا
تجعلنا من القانطين ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اسقنا غيثا مغيثا
هنيئا مريعا سحا غدقا ، عاجلا غير آجل ، نافعا غير ضار ، غيثا تغيث به البلاد
والعباد ، وتسقي به الحاضر والباد ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالأمطار
، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير .
} رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي
الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم
يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون
|