وقفات مع قوله تعالى: ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً )
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:-
عباد الله :
اتقوا الله تعالى واعلموا أن من صفات عباد الرحمن, ما أخبر الله تعالى به بقوله: ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )، فأخبر الله أنهم يمشون على الأرض هوناً : أي بسكينة ووقار وتواضع، هذا هو معنى الهوْن في الآية, كما ذكر ذلك المفسرون. وليس المراد بالهوْن هنا: مشْيُ المرائين والمتزينين للناس والمتمسكنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم, كان إذا مشى أسرع, وكان يتَقلَّع، أي يرفع قدمه عن الأرض إذا مشى، وكان يتكفَّأ, كأنما يَنْحَطُّ من صَبَبَ، كما وصف ذلك الصحابة رضي الله عنهم. هذا هو المراد بالهوْن: السكينة والوقار والتواضع والخضوع لله سبحانه وتعالى، أي: يمشون مشياً سالماً من الكبر والفخر والخُيَلاء والمرح، قال تعالى: ( ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور)، روى البخاري في الأدب المفرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تعظَّم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان). ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )، أي: إذا سَفِهَ عليهم أحد بالقول, أو تكلَّم أحدٌ فيهم بشيء فيه جهل وسفه, لم يُقابِلوا الجهلَ بجهلٍ مثله, وإنما يُقابلونه بالكلام الطيب الدَّال على سمو النفس والإحسان والشفقة والرحمة والنصح بذلك المتكلم الجاهل, ولاشك أن هذا من أحسن الصفات وأكملها .
والناس بالنسبة لمخاطبة من أخطأ عليهم أو جهل عليهم بشيء أربعة أقسام :
القسم الأول: من يُقابل الجهل بجهل أشد منه، وهذه من أسوأ الصفات.
ويكفي أنها من خصال المنافقين التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( وإذا خاصم فجر)، والمؤمن الصحيح الإيمان يستحيل أن تصدر منه هذه الصفة .
القسم الثاني: من يُقابل الجهل بجهل مثله،
وهذا أيضاً مخالف لما أرشد إليه الشارع الحكيم في الآية الكريمة .
القسم الثالث: من يقابل الجهل بالسكوت وعدم الرد،
وهذه صفة طيبة, وتدل على حلم الإنسان وصبره ورزانته وعدم انفعاله. روى أبو داود ( أن رجلاً سَبَّ أبا بكر رضي الله عنه, ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس, فسكت أبو بكر, ثم سبه في الثانية فسكت أبو بكر, ثم سبه في الثالثة, فرَدَّ عليه أبو بكر, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج, فلحقه أبو بكر رضي الله عنه, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( مازال مَلَكٌ يَذُبُّ عنك حتى رددت عليه, فلما رددت عليه حضر الشيطان, وما كان لي أن أجلس وقد حضر الشيطان ).
فالسكوت طيب وفيه السلامة ويحصل بسببه دفاع الملائكة عن الشخص الساكت، ما لم يكن الرد للمصلحة والنصح وبيان الحق، وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى عليه السلام, وصاحب جريج, ثم قال: وكانت امرأة تُرْضِع صبياً لها, فَمُرَّ بِرجُلٍ ذي شارة ـ أي: يُشارُ إليه بالبنان لمكانته ـ فقالت: اللهم اجعل ابني مثله. فترك الصبي ثدي أمه وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم مُرَّ بجارية يجرونها، فقالت المرأة: اللهم لا تجعل ابني مثلها, فترك الصبي ثدي أمه ثم قال: اللهم اجعلني مثلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الرجل ذو الشارة فجَبَّارٌ من الجبابِرة, وأما الجارية التي يجرونها فَيُقَال: زَنَت, فتقول حسبي الله, ويُقَال: سَرَقَت فتقول حسبي الله )، فهذا الرجل الذي له مكانة عند الناس, ليس له مكانة عند الله لِظُلمه وجبروته. وأما الجارية المستضعفة المُسْتحقرة التي تُجَرُّ في السوق ويُؤذيها الناس, لها مكانة عند الله, لبراءتها فيما يُنسَبُ إليها .
ويُذْكَر أن عمر بن عبد العزيز كان يطوف بالبيت, فَوَطِئ قَدَم رجل كان يطوف بجانبه, فقال الرجل لعمر: أأنت حمار؟ فقال عمر: بل أنا عمر بن عبد العزيز .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد :
القسم الرابع: من يقابل الجهل بالإحسان، وهذه الصفة أكمل الصفات,
وهي أن تُقابل من جَهِلَ عليك بالإحسان إليه والدعاء له بالرحمة والعفو المغفرة, وهذه الصفة لا ينالها كُلُّ أحد، وإنما ينالها المؤمنون الكُمَّل، يُذْكَرُ أن رجلاً سبَّ أبا هريرة رضي الله عنه, فقال أبو هريرة: ( اللهم إن كان صادقاً فاغفر لي, وإن كان كاذباً فاغفر له ) .
الله أكبر!
كلامٌ طيب قابل به أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ذلك الجاهل .
والإحسان إلى المُسيء ينبغي أن يكون عامّاً, سواء كان المُسيء أساء بقوله أو بفعله. قال تعالى: ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم ).
ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ( تحدث عن نبي من الأنبياء آذاه قومه فجعل يسْلِتُ الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ).
قال ابن القيم رحمه الله في كلامه عن هذا الحديث:
تَضَمَّن هذا الدعاء أربع مقامات من مقامات الإحسان, وهو قوله ( اللهم اغفر لقومي فإنه لا يعلمون ):
المقام الأول: أنه عفا عنهم .
المقام الثاني: أنه دعا لهم بالمغفرة .
المقام الثالث: أنه اعتذر لهم فقال: فإنهم لا يعلمون .
المقام الرابع: أنه نسبهم إلى نفسه ولم يتبرأ منهم, فقال: قومي .
وهذا يوسف عليه السلام:
قد قرأتم قصته في القرآن وما حصل له من الأذى من إخوته. من إلقائه في غياهب الجب وما حصل من إخوته عندما كذبوا على أبيهم من أنه أكله الذئب ثم جاءت السيارة فشروه بثمن بخس وهو نبي كريم ابن كريم ابن كريم. وما حصل له في بيت امرأة عزيز مصر عندما راودته امرأة العزيز عن نفسها, ثم السجن الذي لبث فيه بِضْعَ سنين. ومع ذلك لما لَقِيَ إخوتَه في آخر الأمر وعرفوه وقالوا: ( تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين )، فلم يعنفهم ولم يُذَكِّرهم بماضيهم وما حصل له من البلاء بسببهم، ولم يكتفِ بمجرد العفو والصفح, بل قابل ذلك كله بالإحسان فقال: ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين )، ثم ذكر مقاما عظيماً يُثيرُ العجب, وهو قوله: ( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي)، ولم يقل: من بعد أن نزع الشيطان على إخوتي! بل أدخل نفسه في القضية مراعاةً لخواطرهم وتطييباً لِنُفوسهم, مع العلم أن الإساءة كلها منهم, من أولها إلى آخرها .
فهذا يا عباد الله موقف عظيم، ينبغي أن نتأمله، خصوصاً في هذا الزمان الذي كَثًرَت فيه الخصومات، وانتشرت فيه العداوة والبغضاء بين كثيرٍ من الناس, وأصبح المسلم يهجر أخاه أو يُعَاديه لأتفه الأسباب .
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنّا سيئها لا يصرفُ عنّا سيئها إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها. اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان .
|