سلسلة خطب عن عبادة الخوف
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:-
عباد الله: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الخوف من الله تعالى من أعظم مقامات الدين وأجلِّها, وإخلاصه لله تعالى فرض على كل أحد, قال الله عز وجل: ( فإياي فارهبون ) وقال تعالى: ( فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين ) .
فأمر الله عز وجل بالخوف وأوجبه وجعله من لوازم الإيمان, فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله .
قال ابن القيم رحمه الله: " ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين ، منزلة الخوف وهي من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب وهي فرض على كل احد ". ومن أجل ذلك صار التخويف أحد مهمتي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فإن الله أرسلهم مبشرين ومنذرين . والإنذار هو الإبلاغ على وجه التخويف من عذاب الله تعالى, ونقمته ومن فوات ثوابه ورحمته.
ثم اعلموا يا عباد الله أن فضائل الخوف كثيرة جداً منها :
1- حصول العفة والبعد عن الزنا والفواحش كما في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ( ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ).
وفي قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار أن أحدهم راود ابنة عمه عن نفسها فلما قعد بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقام عنها وهي أحب النساء إليه .
2- الانتفاع بالذكرى والتأثر بسماع القران والحديث كما قال الله تعالى: ( سيذكر من يخشى ) 3- التمكين في الأرض كما قال تعالى: ( ولأ سكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ).
4- ومن أعظم فضائل الخوف الفوز بالجنة كما قال تعالى: ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى ). وقال تعالى: ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) .
وقد أخبر الله تعالى أن الأمن في الآخرة لا يحصل إلا للخائفين منه جزاءً وفاقا ، كما في مسند البزار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: ( وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين ، إن أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي ، وان خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي ).
ثم اعلموا يا عباد الله أن الخوف من الله تعالى لا يحصل إلا بعد معرفة الله والعلم به وبأسمائه وصفاته ومعرفة دينه .
قال بعض السلف: " من كان بالله أعرف كان منه أخوف ".
قال الله تعالى في وصف الملائكة: ( يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ), وقال تعالى: ( وهم من خشيته مشفقون ) . وقال عليه الصلاة والسلام: ( مررت ليلة اسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله )، والحلس: هو الكساء الذي على ظهر البعير. فهذه خشية الملائكة من الله .
وما ذاك إلا لكمال علمهم بالله ومعرفتهم له حق المعرفة . وتأملوا يا عباد الله سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وما ورد فيها من خشيته لربه وخوفه منه وتعظيمه له .
قال عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء ), أي: غليان كغليان القدر .
وقالت عائشة رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر فإذا أمطرت سُرِّيَ وذهب عنه ذلك ). فلما سألته عائشة رضي الله عنها عن ذلك؟ قال: ( إني أخشى أن يكون عذاباً سُلِّطَ على أمتي ) ، وقال أيضا ( كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته واصغى السمع ينتظر متى يؤمر بالنفخ ).
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله قد شبت ؟ فقال: ( شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت )،
ومما يدل على خوف النبي صلى الله عليه وسلم إكثاره من الاستعاذة من عذاب الله وسخطه ونقمته وعقوبته ، وكثرة استغفاره بالليل والنهار ، ومن نظر في كتب الأذكار والدعوات أدهشه حال النبي صلى الله عليه وسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكّر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ؛ والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .أما بعد:
ومما ورد في هذا الباب العظيم خوف الصحابة رضي الله عنهم, فمن ذلك قول العرباض بن سارية رضي الله عنه: ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون ) . مما يدل على مدى تأثر الصحابة رضي الله عنهم عند سماع الموعظة والذكرى . قال أنس رضي الله عنه: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال : ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) قال أنس رضي الله عنه: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين ).
وكان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته فقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتذكر القبر فتبكي؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( القبر أول منازل الآخرة ، فان نجا منه فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج فما بعده أشد ) .
وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفضع منه ).
فهذه حال الصحابة رضي الله عنهم ، وما ذاك إلا لكمال علمهم بالله.
وإن مما يثير العجب في هذا الباب ما ورد في قوله تعالى: ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ) أي: أن الجبل في غلظته وقسوته لو فهم هذا القرآن وتدبر مافيه لخشع وتصدع خوفاً من الله عز وجل,
فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه .
وقال تعالى عن الحجارة: ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ),
قال مجاهد : " كل حجر يتفجر منه الماء أو يشقق عن ماء أو يتردى من رأس جبل لمن خشية الله نزل بذلك القران ".
اللهم ارزقنا تقواك واجعلنا نخشاك كأننا نراك .
|