الخشوع في الصلاة 1/2
إن الحمدَ لله نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستغفرُهُ؛ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهده اللهُ فلا مضلَّ له؛ ومنْ يضللْ فلا هادي له؛ وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه وسلمَ تسليماً كثيراً. أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن الخشوع هو الخضوع والتذلل والسكون قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾. أي, قد فاز ونجح وسَعُدَ المؤمنون المُصَلُّون, ومِن صفاتهم أنهم في صلاتهم خاشعون. وهذا ثناء من الله على عباده الخاشعين في صلاتهم, وأنهم استحقوا الفلاح والسعادة بسبب ذلك.
وأصلُ الخشوع في الصلاة:
هو حضورُ القلبِ فيها بين يدي الله سبحانه, إخلاصاً ومحبة وإجلالاً وخوفا من عقابه, ورغبة في ثوابه, مع التدبر لما يقول أو يسمع. وهو روح الصلاة والمقصود الأعظم منها, وإذا خشع القلب خشعت الجوارحُ كلُّها، لذا لما رأى سعيد بن المسيّب رجلاً يعبث في صلاته قال: ( لو خشع قلبُ هذا لَخَشَعت جوارحُه ).
وأهمية الخشوع في الصلاة تتصل بثواب المصلي والأجر الذي يحصل عليه، فليس للعبد من صلاته إلا ما عَقَلَ منها, وكان حاضر القلب والفكر فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الرجلَ لينصرف، وما كُتِبَ له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفه ), وهذا هو سِرُّ الأمرِ بإقامة الصلاة, لا مجردِ الفعلِ الظاهر, لأن هناك فرقاً واضحا بين إقامة الصلاة, وبين مجرد تأديتها, وهذا يفسره قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من امرئٍ من مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها, وخشوعها, وركوعها, إلا كان كفاره لما قبلها من الذنوب, ما لم يؤت كبيرة، وذالك الدهر كله ) رواه مسلم عن عثمان رضي الله عنه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك, وهو سيد الخاشعين, وكان يقول: ( وَجُعِلَت قُرَّةُ عيني في الصلاة ). وكان يقوم الليل, ويتلذذ بقراءة القرآن, ويطيل القيام, قال حذيفة رضي الله عنه: ( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة, فافتتح البقرة, فقلت: يركع عند المائة, ثم مضى, فقلت: يصلي بها في ركعة, فمضى, فقلت: يركع بها, ثم افتتح النساء فقرأها, ثم افتتح آل عمران فقرأها, يقرأ مُتَرَسِّلاً, إذا مر بآية فيها تسبيح سَبَّح, وإذا مر بسؤال سأل, وإذا مر بِتَعوُّذٍ تَعَوَّذ, ثم ركع فجعل يقول: " سبحان ربي العظيم " فكان ركوعه نحواً من قيامه, ثم قال: " سمع الله لمن حمده " ثم قام طويلاً, قريباً مما ركع, ثم سجد فقال: " سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من قيامه ).
كل ذلك يا عباد الله يدل على كمال خشوعه وخضوعه لله, صلوات الله وسلامه عليه.
وكذلك الصحابة رضي الله عنهم, لَمَّا تعلَّموا التوحيد والسنة, وعرفوا عَظَمةَ الله, وعِظَمَ قدرِ الصلاة في قلوبهم, اعتنوا بها حتى صارت قرةَ عيونهم, ولذة قلوبهم.
فهذا عَبَّاد بن بِشْرٍ رضي الله عنه, كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع " فأمره النبي صلى الله عليه وسلم مع عمار بن ياسر بالحراسة في إحدى الليالي, فاتفق هو وعمار أن يتناوبا الليل بينهما, فنام عمار, وبقي عباد رضي الله عنه, فأحب أن يقضي ليلَهُ في الصلاة وتلاوة القرآن, فبينما هو يصلي, إذْ رماه رجل من المشركين بسهم فأصابه, فانتزع عبادٌ السهم ومضى في صلاته, فرماه بآخر, فانتزعه عبادٌ ومضى في صلاتِه, فرماه بثالث فانتزعه, فلما غَلَبَ عليه الدم, ركع وسجد وقضى صلاته ثم أيقظ عماراً, فَهَرَبَ الرجل.
فقال عمار: أي أخي، ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به ؟ قال: كنت في سورة أقرأها وهي سورة الكهف، فكرهت أن أقطعها حتى أفرُغَ منها، ولولا أني خشيت أن أُضَيِّعَ ثغراً أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انصرفت, ولو أُتِي على نفسي ".
وقال مجاهد: " كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة, كأنه عود من الخشوع ". والأخبار عن الصحابة في ذلك كثيرة.
وأما نحن فقد شغلتنا الدنيا وهمومُها, وشهواتُها, حتى أصبحنا إذا قمنا إلى الصلاة, أتيناها متكاسلين, أو متثاقلين, فلا نتم ركوعها ولا سجودها كما أمر الله, وننصرف منها إلى مشاغل الدنيا مسرعين, كأن عَدُوَّاً يطلبنا, إلا من رحم الله منا, والكثير منا لا يعرف قدر الوقوف بين يدي الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أولُ ما يُرفع من الناس الخشوع ).
فتجد البعض يأتي أثناء الصلاة بحركات كثيرة, كأنه ليس في صلاة, فيتمايل بجسمه, ويحك يديه, وينظر في ساعته, ويعدل في غترته أو عقاله, ويفرقع أصابعه, وحالته كأنه في شارع أو مجلس مع أصحابه, وأعظم من ذلك أن ينظر إلى السقف, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما بالُ أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء؟ لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك أو لَتُخْطَفَنَّ أبصارُهم ).
فاتقوا الله عباد الله, وراقبوا أنفسكم في صلاتكم, فإنها علامة إيمانكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أما بعد أيها المسلمون:-
إن إقامة الصلاة التي أمر الله بها تنقسم إلى قسمين: إقامة باطنة لا يعلمها إلا الله، وإقامة ظاهرة تظهر على الجوارح.
أما الإقامة الباطنة: فهي الإخلاص لله واستشعار الوقوف بين يدي الله, وتدبر أذكار الصلاة.
وأما الإقامة الظاهرة: فهي القيام بها كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم, وأداؤها مع الجماعة في المساجد, لقوله صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).
واعلموا أن الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر, هي الصلاة التي أقامها العبد على وفق هدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا من الخاشعين في صلاتهم، اللهم اجعلنا من الخاشعين في صلاتهم ، اللهم اجعلنا من الخاشعين المفلحين، اللهم فقهنا في دينك اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنّا وما أسررنا وما أسرفنا وما أنت أعلمُ به منا أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدير، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمةً عامة وهداية عامةً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفقّ ولي أمرنا لما يرضيك اللهم وفقه بتوفيقك وأيّده بتأييدك واجعله من أنصار دينك, وارزقه البطانة الصالحة الناصحة، اللهم حبب إليه الخير وأهله وبغض إليه الشر وأهله يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
|