تفسيرُ
سورةِ القدرِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها المسلمون: اتَّقُوا اللهَ تَعالى،
وتَذَكَّرُوا عَظَمَةَ القُرْآنِ، وعَظَمَةَ شَهْرِ رَمَضانَ، قال تعالى: ﴿ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمَ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ
الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ
فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ(4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ
الْفَجْرِ (5) ﴾
يَذْكُرُ اللهُ تعالى: أَنَّه أَنْزَلَ
القرآنَ العَظِيمَ، في لَيْلَةِ القَدْرِ، والمُرادُ أَنَّه ابْتَدَأَ إنْزالَه في
لَيْلَةِ القَدْرِ. وَلَيْلَةُ القَدْرِ في رمضانَ بِلا شَكَّ، ودَلِيلُ ذلك
قَوْلُهُ تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ
أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ ﴾. فإذا جَمَعْتَ هذه الآيةَ، إلى قَوْلِه: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾
تَبَيَّنَ أَنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ في رمضانَ.
والقَدْرُ:
يَشْمَلُ مَعْنَيَيْنِ الأولُ: الشَّرَفُ الكَبِيرُ. والثاني: التَّقْدِيرُ، لِأَنَّه يُقَدَّر فِيها ما
يَكُونُ في السَّنَةِ لِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿ إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حكِيم ﴾. أي يُفَصَّلُ وَيُبَيَّنُ ويُقَدَّرُ
فيها ما يَكُونُ في السنَةِ مِن الإِحياءِ والإماتَةِ والأرزاقِ وغَيْرِ ذلك. ثم
قال جَلَّ وَعَلا: ﴿ وما أدراك مَا لَيْلَةُ
الْقَدْرِ ﴾ وهذه الجُمْلَةِ بِهذه الصِّيغَةِ يُسْتَفادُ مِنْها
التعظيمُ والتَّفْخِيمُ، لِعِظَمِ شَأْنِها وَقَدْرِها. أَيْ: فَإِنَّ شَأْنَها
جَلِيلٌ وَقَدْرَها عظيمٌ. ثم بَيَّنَ ذلك بِقَولِه: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ ألْفِ شَهْر ﴾
وهذا جَوابٌ لِلاسْتِفْهامِ الذي سَبَقَها، وَهُوَ قَوْلُه: ﴿ وَمَا أدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾. والْمُرادُ
بِالخَيْرِيَّةِ هُنا: ثَوَابُ العَمَلِ فِيها، وما يُنَزِّلُ اللهُ تَعالى فِيها
مِنْ الخَيْرِ والبَرَكَةِ على هذِهِ الأُمَّةِ.
وهذا
مِمَّا تَنْدَهِشُ لَه العُقُولُ، حَيْثُ مَنَّ اللهُ على هذه الأُمَّةِ بِلَيلةٍ
يَكُونُ العَمَلُ فِيها يُقابِلُ وَيَزِيدُ عَلَى عَمَلِ رَجُلٍ اسْتَمَر فِي
العِبادَةِ أَلْفَ شَهْرٍ، أَيْ ثَلاثًا وثَمانِينَ سَنَةً وأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
فَيَا لَهُ مِنْ فَضْلٍ لا يُحْرَمُه إلا مَحْرُومٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تعالى ما يَحْدُثُ في
تِلْكَ اللَّيْلَةِ فقال: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ
وَالرُّوحُ فِيهَا ﴾ أيْ تَنَزَّلُ شَيْئًا فَشَيْئًا، لِأَنَّ
المَلائِكَةَ سُكَّانُ السَّمَواتِ. والسَّمَواتُ سَبْعٌ, فَتَتَنَزَّلُ الملائكةُ
إلى الأَرْضِ شَيْئًا فَشَيْئًا فَتَمْلَأُ الأرضَ. وَنُزُولُ المَلائِكَةِ في
الأرضِ عُنْوانٌ عَلَى الرحْمَةِ والخَيْرِ والبَرَكَةِ. ﴿ وَالرُّوحُ ﴾: هُوَ جِبْريلُ عَلَيْهِ السلامُ,
خَصَّهُ اللهُ بالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ وَفَضْلِهِ. وقَوْلُه تَعالَى: ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِم ﴾ أَيْ أَنَّ نُزُولَ
الملائِكَةِ بِهذا العَدَدِ الكثيرِ يَكُونُ بِإِذْنِ اللهِ وأَمْرِهِ. وَقَوْلُه:
﴿ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ أَيْ بِكُلِّ أَمْرٍ
مِمَّا يَأْمُرُهُم اللهُ بِهِ. ﴿ سَلامٌ هِيَ
﴾ أيْ هذه اللَّيْلَةُ سالِمَةٌ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَشَرٍّ لِكَثرةِ خَيْرِها،
وَكَثْرَةِ مَنْ يَسْلَمُ فِيها مِنْ الآثامِ وَعُقُوباتِها.
وَلَيْلَةُ
القَدْرِ أَخْبَرَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أنَّها: ( طَلْقَةٌ سَمْحَةٌ، لا حارَّةٌ ولا بارِدَةٌ، تُصْبِحُ
الشمسُ في صَبِيحَتِها ضعيفَةً حَمْراءَ ). أيْ لا شُعاعَ لَها حَتَّى
تَرْتَفِعَ. وَأَخْبَرَ أَنَّه: ( لا يُرْمَى فِيها
بِنَجْمٍ ). وَأخْبَرَ أَيْضًا أَنَّ: ( الْمَلائِكَةَ
تِلْكَ اللَّيلةَ في الأرضِ أَكَثرُ مِنْ عَدَدِ الحَصَى ).
وهِيَ في
العَشْرِ الأَواخِرِ مِنْ رمضانَ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، حَيْثُ ثَبَتَ
أَنَّها كانت لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرينَ،
وَلَيْلَةَ سَبْعٍ وعِشْرينَ، وَثَبَتَ الأَمْرُ بِالْتِماسِها فِي السَّبْعِ
والتِّسْعِ والخَمْسِ. وَرُوِيَ أَنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قال: ( أُنْزِلَتْ صُحُفُ إبراهيمَ أَوْلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمضانَ،
وأُنْزِلَتْ التَّوْراةُ لِسِتٍّ مَضَتْ مِنْ رمضانَ، وَأُنْزِلَ الإنجيلُ لِثلاثَ
عَشْرَةَ خَلَتْ مِن رَمضانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمانَ عَشْرَةَ خَلَتْ
مِنْ رَمضانَ، وَأُنْزِلَ القُرْآنُ لِأَرِبعٍ وعِشْرينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضانَ
).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة
الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً
كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ
الله:
إِيَّاكُمْ والتَّفْريطَ فِيما بَقِيَ مِنْ لَيالِي هذا الشَّهْرِ، وتَزَوَّدُوا
مِنْ الأَعْمالِ الصالِحَةِ والمُحافَظَةِ عَلَى صَلاةِ اللَّيْلِ، واجْعَلُوا
ذلكَ سَبَبًا لِاسْتِمْرارِكُم عَلَى صَلاةَ اللَّيْلِ بَعْدَ رَمضانَ.
واجْتَهِدُوا فِي الدُّعاءِ لِأَنْفُسِكُم بِالمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ والقَبُولِ،
وأَكْثِرُوا مِن الدُّعاءِ لِإخْوانكِمُ الْمسلمينَ فِي كُلِّ مَكانٍ. وَأَنْ
يَنْصُرَ اللهُ الإسلامَ وأَهْلَه، وَأَنْ يَرْحَمَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِن
المسلمين.
واحْرِصُوا يا
عِبادَ اللهِ عَلَى حَثِّ أوْلادِكُمْ ونِسائِكُمْ عَلَى الصلاةِ
والعِبادَةِ في هذِه اللَّيالِي فَإِنَّ مِنْ الاجْتِهادِ الذي كان يَفْعَلُه
رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم هُوَ إيقاظَ أَهْلِهِ في هذِه اللَّيالِي. وَمَن
كانت مِنْ نِسائِه حائِضًا فَلْيُخْبِرْها أَنَّ الخَيْرَ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى
الصلاةِ. وَلْيـَحُثَّها عَلَى كَثْرَةِ الذِّكْرِ والاسْتِغْفارِ، والدعاءِ
وقِراءَةِ القرآنِ. فَإِنَّ الحائِضَ أو النُّفَساءَ وإنْ كانت لا تَمَسُّ
القُرآنَ مُباشَرَةً، لَكِنَّها تَقْرَأُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ أَوْ تَلْبَسُ
القُفَّازَيْنِ وَتَحْمِلُ الْمِصْحَفَ، وَلا حَرَجَ عَلَيْها فِي ذلك إِنْ شاءَ
الله.
اللهم تَقَبَّل
مِنَّا الصيامَ والقيام، وَوَفِّقْنا فِيما بَقِيَ مِن اللَّيالِي والأَيَّامِ، وتجاوز
عن التقصير والآثام يا ذا الجلال والإكرام، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، اللهم تقبل
صيامنا وقيامنا ولا تردنا خائبين، اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك والعتق من
نارك والفوز بجناتك يا حيّ يا قيوم، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق
رقابنا من النار يا أرحم الراحمين، اللهم اقبل من المسلمين صيامهم وقيامهم واغفر
لأحياهم وأمواتهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين وأذلّ
الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم احقن دماء
المسلمين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين
في كل مكان اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ
لهذه البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها، اللهم احفظها ممن يكيد لها يا
رب العالمين، اللهم وفق حكامها وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين يا
حيّ يا قيوم، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد
من الخطب السابقة في مناسبة استقبال العشر الأواخر رمضان:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=166
|