أَنْواعُ
الصَّومِ الواجِبِ
والحِكْمَةُ
مِن دُخُول الصَّومِ في الكَفَّارات
إِنَّ الْحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد،
عبادَ
الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أنَّ الصيامَ رُكْنٌ مِن أركانِ الإسلامِ
ومَبانِيهِ العِظام، وهو واجِبٌ على البالِغِ القادِرِ العاقِل، ولا يَجِبُ على الْمُسْلِمِ
غَيْرُهُ إلا إذا أرادَ أنْ يَتَطَوَّعَ. ما لَمْ يَتَسَبَّب الْمُسْلِمُ على
نَفْسِهِ بِما يُوجِبُ علَيْهِ الصَّوْمَ، فيكونُ واجِباً عَلَيهِ على وجْهِ
الخُصُوصِ دُونَ غَيْرِهِ مِن المُسْلِمين. ولِذلكَ قَسَّمَ العُلَماءُ أنْواعَ
الصومِ الواجِبِ لِهذا الاعتِبارِ، وجَعَلُوه ثلاثةَ أنواع:
الأول: صَوْمُ رمضان. الثاني: الصَّومُ
الواجِبُ بالنَّذْر. الثالث: صَوْمُ الكَفَّارات.
أمَّا النَّوْعُ الأَوَّل، فهو صَوْمُ
رَمَضان، وَوُجُوبُه مَعْلُومٌ مِن الدِّينِ بالضَّرُورَةِ لَدَى الْمُسْلِمِين.
وأمَّا النَّوْعُ الثاني, وهُو صَوْمُ النَّذْر، وذلكَ بِأَنْ يُوجِبَ العَبْدُ على نَفْسِهِ صَوْماً لَم يُوجِبْهُ اللهُ عليه، سواءً نَذَرَ يَوْماً أَو أَيَّاماً أو شَهْراً، أو أَكْثَرَ من ذلك. فَيَجِبُ
عَلَيْهِ الوفاءُ بِنَذْرِهِ, لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ( مَن نَذَرَ
أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْه ). إلا إذا نَذَرَ صَوماً مُحَرَّماً، كَما لَو
نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ العيد، أَوْ نَذْرَ أَنْ يَصُومَ أَكْثَرَ مِن نِصْفِ السنة، فإنه لا يَفِي بِنَذْرِه، وإنَّما يُكَفِّرُ كفارةَ يمين، لأنه نَذْرُ مَعْصِيَة، وقَدْ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( وَمَن نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلا
يَعْصِه ). ولا يَنْبَغِي لِلمُسْلِمِ أَنْ يُحْرِجَ نَفْسَه بِالنَّذْرِ
فَيُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ ما لَمْ يُوجِبْهُ اللهُ عَلَيه.
النَّوعُ الثالث، صَوْمُ الكَفَّارات، وهُوَ
أَنْواعٌ:
أَوَّلُها: كَفَّارةُ الجِماعِ في نَهارِ
رَمَضان: وهِيَ أَوَّلاً عِتْقُ رَقَبَة، فإِنْ لَمْ يَجِد صامَ شَهْرَينِ
مُتَتَابِعَين، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينا.
الثاني: كَفَّارَةُ قَتْلِ الْخَطَأ: سَواءً
كانَ الْمَقْتُولُ خَطَاً مُسْلِماً أو كافِراً مَعْصُوماً، وهي عِتْقُ رَقَبَة، فإِنْ لَمْ يَجِدْ صامَ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَيْن. وليْسَ في كفارةِ قَتْلِ
الخَطأِ إطعام.
الثالث: كَفَّارَةُ الظِّهارِ: والظِّهارُ أَنْ يَقَولَ الشَّخْصُ لِزَوجَتِهِ: أَنتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وفِي هذِهِ
الحالَةِ لا يَجُوزُ لَهُ أَن يُجامِعَ زَوجَتَه حَتَّى يُعْتِقَ رَقَبَة، فَإنْ
لَمْ يَجِد فَإِنَّه يَصُومُ شَهْرَين مُتتابِعَين قَبْلَ أَن يَمَسَّ زَوجَتَه، فَإنْ جامَعَها قَبْلَ إِتْمامِ الصَّوْمِ فَإنَّه يَسْتَأنِفُ مِن جَديد. فإِنْ
لَمْ يَسْتَطِع الصَّوْمَ أَطْعَمَ ستينَ مِسْكينا.
وَكُلُّ كَفَّارَةٍ وَجَبَ فيها صِيامُ
شَهْرَين مُتَتابِعَين، فإِنَّه يَجُوزُ قَطْعُ التتابُعِ فيها في السَّفَر
والمَرَضِ، ويَتَحَتَّم قَطْعُ التَّتابُعِ في العِيدَين، وأيامِ التَّشْرِيقِ
الثلاثةِ، والحَيْضِ والنِّفاس، ويُتِمُّ بَعْدَ ذلك ما بَقِيَ مِن المُّدَّةِ
فَوْرَ زَوالِ هذه الأسبابِ.
الرابع: كَفَّارةُ جَزاءِ الصَّيْدِ، وذلِكَ
بِأَن يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ بالحَجِّ أو العُمْرَةِ صَيْداً بَرِّيًّا، فَيَجِبُ
عَلَيه أَنْ يُهْدِيَ مِثْلَهُ مِن بَهِيمَةِ الأَنعام، أو يُخْرِجُ بِقِيمتِهِ
طعاماً لِلمَساكين، أَوْ يَصُومُ أَيَّاماً بِعَدَدِ المَساكينِ الذين يُشْبِعُهُم
هذا الصَّيْد.
الخامس: كَفّارةُ اليَمين، وهِي إطْعامُ
عَشَرَةِ مَساكِينَ أو كِسْوَتُهُم أَو تَحْريرُ رَقَبَة، ولا يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يُكَفِّرَ بالصِّيامِ إلا إذا لَمْ يَجِد الأشياءَ الثلاثةَ المَذْكُورة، فَحِينَئِذٍ يَصُومُ ثلاثةَ أيام.
السادس: فِدْيَةُ الأَذَى، وهذا
بالنِّسْبَةِ لِلمُحْرِمِ إذا فَعَلَ مَحْظُوراً مِن مَحْظُوراتِ الإحرام، فإِنَّه
يَذْبَحْ شاةً أَوْ يُطْعِم ستَّةَ مَساكين، أو يَصُومُ ثلاثةَ أيام.
السابعُ: مَن لَم يَجِد الهَدْيَ مِن
الحُجَّاجِ الْمُتَمَتِّعِين أو القارِنِين، فإنَّه يَصُومُ عَشْرَةَ أيامٍ، ثَلاثَةً في الحَجِّ وسَبْعةً إذا رَجَعَ إلى أهْلِه.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ
الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم،
أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين
مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ
أَيُّها المسلمون: إنَّ ما سَمِعْتُمُوه مِن
دُخُولِ عِبادةِ الصَّوْمِ في الكَفَّاراتِ المُتَنَوِّعَةِ والمُتَعَدِّدَة، لَيَدُلُّ دِلالَةً واضِحَةً عَلَى أنَّ الصَّوْمَ مُكَفِّرٌ لِلذُّنُوبِ، سَتَّارٌ لِلخَطايا، يَمْحُوها ويُذْهِبُ أَثَرَها. لِأَنَّ الكَفَّارَةَ في
اللُّغَةِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ " الكَفْرِ "، وهُوَ السَّتْرُ
والتَغْطِيَة.
ويَدُلُّ أيضاً: عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ
يَزْجُرُ عن الوُقُوعِ في الْمَعاصِي والْجِناياتِ، لأنَّ مِن مَقاصِدِ
الشَّرِيعَةِ في الكَفَّاراتِ زَجْرَ الآخَرِينَ أَنْ يَقَعُوا في مِثْلِ ما
وَقَعَ فيهِ عَيْرُهُم. فَكانَ الصَّوْمُ أَحَدَ هذِهِ الكَفَّارات.
ويَدُلُّ أيضاً: عَلَى أَنَّ في الصَّومِ
تَهْذِيباً لِلنَّفْسِ، وتَقْوِيماً لِلْخُلُقِ، وتَعْوِيداً عَلَى الصَّبْرِ،
وتَحَمُّلاً لِلشَدائِدِ، وتَقْوِيَةً لِلإِرادةِ والعَزِيمَةِ. فَيَا لَهُ مِن
عِبادةٍ عَظِيمَةٍ لا يَعْرِفُ قَدْرَها وأسْرارَها إلا القَليلُ مِن عِبادِ
اللهِ.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا
وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم تقبل منا الصيام والقيام, ووفقنا
فيما بقي من الليالي والأيام، وتجاوز عن التقصير والآثام يا ذا الجلال والإكرام،
اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من
النار يا أرحم الراحمين، اللهم اقبل من المسلمين صيامهم وقيامهم واغفر لأحياهم
وأمواتهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اسْتَعْمِلْنا في طاعتِك, وأعِنَّا على
ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتِك، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من
رزقك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، واحفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام
قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال
المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا
الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الكتاب والسنة، اللهم اجعل كلمتهم
واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً واجعلهم قوة واحدة على من سواهم، ولا
تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ بلادنا ممن يكيد لنا ويتربص
بنا الدوائر واجعل تدبيره في تدميره ورُدّ كيده في نحره يا قوي يا عزيز، اللهم
اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك
اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء
والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا
إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ).
وللمزيد من الخطب السابقة عن شهر رمضان تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=132
|