السُّنَّة الْـمُلْجَمِيَّة
خطبة جمعة بتاريخ / 13-9-1435 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده اللهُ فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليلُه ، وأمينُه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعَه ، ما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه ، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ربكم ، وراقبوه جلَّ في علاه مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه .
وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله .
أيها المؤمنون عباد الله : إن رمضان شهر برٍّ وإحسان ، وعطفٍ وتراحم ، وبذلٍ وإكرام ، ولكن -عباد الله- عندما تتلوث العقول وتفسد القلوب يتحول الحال إلى أمرٍ على النقيض من ذلك تماما ، ولاسيما -عباد الله- عندما يتلوث عقل الإنسان بفكر الخوارج الخبيث ؛ وهو فكرٌ -عباد الله- خطيرٌ أشد ما يكون من الخطورة ، اتفق أئمة الإسلام وعلماء الدين على ذمِّه والتحذير منه وبيان شدة خطورته على الناس ، وجاءت الأحاديث متكاثرةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذمِّه وبيان خبثه وعظيم شره في الصحيحين وفي غيرهما ، ومن ذلكم ما رواه البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ ؛ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ)) ، وجاء في الصحيحين في ذِكر خبر الرجل الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسْم المال وقال للنبي عليه الصلاة والسلام " اتق الله يا محمد" ، فاستأذن بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في قتله فلم يأذن وقال : ((إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا-أي من ذريته وعقبه- قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ)) . والأحاديث عباد الله في ذم الخوارج والتحذير منهم وكذلكم الآثار المروية عن السلف رحمهم الله كثيرةٌ جدا .
عباد الله : وعوْدًا على بدء ؛ عندما يتلوث فكر الإنسان بهذا الفكر الخبيث يتحول الحال في شهر رمضان إلى حال أخرى من شرٍ وعدوان ، ومكرٍ وخبثٍ وإجرام . وقد كان في الزمن الأول زمن الصحابة بداية أرباب هذا الفكر ؛ استغل عددٌ منهم هذا الشهر الكريم العظيم المبارك لتنفيذ مخططاتهم الآثمة وإجرامهم وعُدوانهم ، ومن ذلكم عباد الله : قتل الخليفة الراشد علي ابن أبي طالب رضي الله عنه على يد رأس من رؤوس الخوارج ؛ وهو عبدالرحمن بن ملجم ، قتل عليًا رضي الله عنه في شهر رمضان المبارك في السابع عشر منه وقت خروجه رضي الله عنه لأداء صلاة الفجر ، وكان ذلك الآثم يظن ويعتقد في عمله أنه من أعظم القُرَب إلى الله ، ولهذا قتل عليًا وهو يقرأ قول الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة:207] معتقدًا هذا الآثم أن صنيعه ذلك من شراء نفسه ومن ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى وطلب مرضاته .
ثم -عباد الله- مضى هذا الأمر سنَّة مُلْجَمِيَّة سنَّها هذا الرجل لأتباعه والسائرين على نهجه على مر التاريخ في اختيار هذا الشهر المبارك الذي تقبِل فيه القلوب والنفوس على الله طاعةً وإيمانا ، وعبادةً وإحسانا ، وتقربًا وفعلًا للخيرات ؛ يتحول إلى ضرب عظيم من ضروب العدوان عند هؤلاء ، ومن ذلكم -عباد الله- ما وقع في الجمعة الماضية على إثر صلاة الجمعة مباشرة في الحدود في الوديعة في محافظة شرورة ؛ من دخول عددٍ من هؤلاء الذين يحملون هذا الفكر ، ثم ماذا كان من إثر صنيعهم وإجرامهم في تلك اللحظات المباركات والساعات الفاضلات ؟! كان إثر صنيع هؤلاء أن ارتكبوا أعظم جريمتين بعد الكفر والشرك بالله ألا وهما :
· قتل المرء لنفسه .
· والجريمة الأخرى : قتل النفس المعصومة .
وفي الجريمة الأولى يقول الله: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء:29] وجاء في الصحيحين ((مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)) . وفي الجريمة الأخرى يقول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ﴾ [النساء:93] ، والنصوص فيما يتعلق بهاتين الجريمتين وعظم أمرهما وفداحتهما كثيرة في كتاب الله وسنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه .
أيها المؤمنون عباد الله : من عوفي من البلاء فليحمد الذي عافه جل في علاه ، فإن هؤلاء عندهم غيْرة على الدين لكنها ليست مضبوطة بضابط شرع ، ولا زمام تقوى ، ولا مراقبةٍ لله جل في علاه ، مع حداثة السن ، وقلة البصيرة ، وعدم التجربة والخبرة ، ومع قلة الفهم بدين الله تبارك وتعالى ، وسبَق ذلك عزلٌ لهؤلاء عن الأئمة الأعلام والعلماء المحققين ؛ فخرجوا بهذا الفكر الـمُنْبَت والعدوان والإجرام وارتكاب كبير أنواع الإجرام في عباد الله تبارك وتعالى ، فكان من شأنهم كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام : « يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ» ، يقرؤون القرآن ويدَّعون التحاكم إلى القرآن ولكنهم من أبعد الناس عن فهمه والقيام به ، لأن شأنهم كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم « يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تراقيهم» ؛ أي لا حظ قلوبهم منه فهمًا وعقلًا وتدبرا .
نسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبأنه الله الذي لا إله إلا هو أن يحفظ علينا وعلى المسلمين أمْننا وإيماننا ، وإسلامنا وسلامنا ، اللهم من أرادنا أو أراد ديارنا أو أرد غيرنا من المسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره ، واجعل تدميره تدبيره يا سميع الدعاء .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى .
عباد الله : لنغْنم شهرنا المبارك وموسمنا الكريم فإنه قارب على الانتصاف ، ولنجاهد أنفسنا على حُسن التقرب إلى الله وحُسن التعبد له جل وعلا بما يرضيه ؛ فإن وقتنا وقتٌ ثمين للغاية ، وموسمنا موسمٌ مبارك ينبغي أن تُغتم أوقاته وتُستغل لحظاته المباركات ، ولنتذكر -يا معاشر المؤمنين- أن لله عز وجل مناديًا ينادي في كل ليلة من ليالي رمضان «يا باغي الخير أقبِل ، ويا باغي الشر أقصِر» .
نسأل الله عز وجل المعونة والتوفيق والهداية والتسديد ، وأن لا يكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وأن يجعل موسمنا هذا المبارك لنا أجمعين إلى الخير مرتقًى ومغنما ، وأن يصلح لنا شأننا كله .
واعلموا - رعاكم الله - أنَّ أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهُدى هُدى محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكلَّ بدعةٍ ضلالة ، وكل ضلالةٍ في النار ، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا )) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين ، الأئمة المهديين ؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعِينا وحافظًا ومؤيِّدا ، اللهم وعليك بأعداء الدِّين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين .
اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال ، اللهم يا ربنا ارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقَّه وجلَّه، أوله وآخره ، علانيته وسرَّه . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125 |