25 رمضان 34هـ
الحمدُ للهِ الذي خلق الموت والحياة ، الآمر باغتنام الأوقات قبل الفوات ، القائل في كتابه : } وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ، ولا في ألوهيته ، ولا في أسمائه والصفاة .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، كانت كل أوقاته طاعات ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى أن يرث الله الأرض والسماوات ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد عباد الله :
أوصيكم بوصية ربكم لكم ولمن كان قبلكم ؛ تقوى الله U ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فاتقوا الله - يا عباد الله ، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
كما تعلمون - رحمني الله وإياكم - بأن شهر رمضان قد دنى رحيله ، وقربت نهايته ، فقد مضت أيامه ولياليه ، وانقضت لحظاته وساعاته ، فماهي إلا أيام ، وتنقضي الأيام المعدودات التي ذكر الله U بقوله : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ { ، أوشكت على الانتهاء ـ أيها الأخوة ـ هذه الأيام المعدودات ، ومن منا من يتذكر ما مر عليه في هذه الأيام ؟ المحسنون الذين أحسنوا في ما مضى من هذه الأيام المعدودات ، لا يحسون بتعب طاعتهم وإحسانهم . وكذلك المفرطون الذين ألهتهم شهواتهم وملذاتهم ؛ أيضا لا يحسون الآن في لذة شهواتهم وملذاتهم . انتهت مشقة الطاعات ، وذهبت لذة الشهوات ولم يبق إلا الحسنات والسيئات :
تفنى اللذاذاتُ ممن نالَ صفوتَها
من الحرامِ ويبقى الإثمُ والعارُ
تبقى عواقبُ سوءٍ في مغبتِها
لا خير في لذةٍ من بعدها النارُ
ولكن ـ أيها الأخوة ـ حتى وإن مضى من رمضان أكثره ، ولم يتبق منه إلا القليل ، فإن الأيام القليلة القادمة ، هي من أفضل أيام شهر رمضان ، والعمل على استغلالها ، ومضاعفة الجهود في ما يقرب إلى الله U فيها ، من أهم مهمات المسلم ، والقدوة في ذلك هو النبي r .
إذا كان الناس في هذه الأيام الباقية ـ أيها الأخوة ـ تشغلهم الأسواق ، والبحث عن كل جديد ، وقضاء الأوقات الثمينة في البيع والشراء ، فإن المسلم يحرص على الاقتداء بنبيه r ، الذي كان يغير ، في مثل هذه الأيام ـ مما اعتاد عليه ، فإنه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ يجتهد في رمضان منذ دخوله ، ولكنه إذا دخلت العشر الأخيرة منه ، اجتهد أكثر ؛ كما قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ ، وفي الحديث المتفق عليه تقول : إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ .
تأملوا ـ يا عباد الله ـ ماذا كان يفعل نبيكم ، قدوتكم ، r ؛ إنه يغتنم هذه الأوقات الفاضلة ، فالله .. الله ، يا عباد الله ، اقتدوا بنبيكم ، واستغلوا ما بقي من شهركم ، واحذروا التفريط ، فإن الأيام ثمينة ، وسوف تمضي وتنقضي كما مضى وانقضى غيرها من الأيام .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن الذي يفرط في مثل هذه الأيام ، يفوت عليه خير كثير ، فهي من أيام عشر العتق من النار ، وقد تكون فيها ليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر كما قال U : } لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ { والتي قال عنها النبي r كما في الحديث الذي صححه الألباني : (( لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ, مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ )) .
ويقول النبي r في الحديث الصحيح : (( مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) فهي فرصة ـ أيها الأخوة ـ وما أكثر ذنوبنا ـ يا عباد الله ـ وما أحوجنا لمغفرة ربنا ، فتحروا هذه الليلة العظيمة ، فقد جاء أنها في الليالي القادمة ، يقول النبي r في الحديث الذي رواه البخاري : (( الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى أَوْ خَامِسَةٍ تَبْقَى أَوْ سَابِعَةٍ تَبْقَ )) واحرصوا ـ أيها الأخوة ـ على ليلة سبع وعشرين ، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد يقول r : (( لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
إنكم في أيام فاضلة ، ينتظرها الصالحون ، ويعد لها الجادون الصادقون ، فهي الخاتمة العطرة ، واللؤلوة النادرة في عقد رمضان ، يقول ابن رجب : المحبون تطول عليهم الليالي فيعدونها عدا ، لانتظار ليالي العشر الأواخر في كل عام ، فإذا ظفروا بها نالوا مطلوبهم ، وخدموا محبوبهم . فالله .. الله يا عباد الله ، اغتنموا بقية شهركم فيما يقربكم إلى ربكم.
اسأل الله U لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة إنه سميع مجيب . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
اعلموا رحمني الله وإياكم ، بأنه يشرع لكم في ختام شهركم ، زكاة الفطر ، وهي فريضة فرضها رسول الله r على المسلمين ، صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم ، ففي الحديث الصحيح يقول عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r فَرَضَ عَلَى النَّاسِ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) .
وزكاة الفطر - أخوتي في الله - طهرة للصائم مما وقع فيه من لغو ورفث ونحوه ، ونحن والله بحاجة لمثل هذه الزكاة ، قليلة المقدار عظيمة الفائدة .
نحن أخوتي في الله ، أشد حاجة لهذه الزكاة ، من حاجة المساكين لها ، وإن كان المساكين يحتاجونها لتسد جوعتهم يوم العيد ، فنحن نحتاجها لتكون طهرة لنا مما ينقص أجر صومنا ، كما في حديث ابن عباس الحسن : (( فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ r زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَهِىَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَهِىَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ )) .
فالله .. الله .. أخرجوا زكاة فطركم من طعامكم ، عن أنفسكم وعمن في بيوتكم ، وما هي إلا صاع مما تطعمون منه ، كما في الحديث عن أبي سعيد الخدري t قال : كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ النبي r يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ . وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأَقِطُ وَالتَّمْرُ.
اسأل الله U أن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، وان يرحمنا برحمته فهو أرحم الراحمين .اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى .
اللهم اجعلنا في هذا الشهر العظيم من عتقائك من النار . اللهم اجعلنا من الذين وفقو لقيام ليلة القدر، واجعلنا فيها وفي غيرها من الليالي من الفائزين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الله لا إله إلا أنت ، أن تعتق رقابنا من النار ، ورقاب آبائنا وأمهاتنا ، وترحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك ، تهدي بها قلوبنا ، وتزكي بها نفوسنا ، وتستر بها عيوبنا ، وتحصن بها فروجنا ، وتنفس بها كروبنا ، وتقضي بها ديوننا ، وترحم بها موتانا ، وتشف بها مرضانا ، وتعافي بها مبتلانا ، فأنت أرحم الراحمين . } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-120.html
وللمزيد من الخطب السابقة عن ختام شهر رمضان تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-167.html
|