إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
الحَمْدُ لِلهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ الخَبِيرِ ، اللطِيفِ السَّمِيعِ البَصِيرِ ، } الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { .
أَحْمَدُهُ حَمْدَاً يَلِيقُ بِكَرِيمِ وَجْهِهِ ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ ، وَأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ ، وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، } غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ { .
وَأشْهَدُ أنّ مُحَمَدَاً عَبدُهُ ورَسُولُه ، وصَفِيُهُ وَخَلِيلُهُ ، وخِيرَتُهُ مِنْ خَلقِهِ ، البَشِيرُ النَّذِيرُ ، والسِّرَاجُ المُنِيرُ ، صَلَى اللهُ عَلِيهِ وَعَلى آلهِ وأصحَابِهِ ، وَسلَّمَ تَسلِيماً كَثِيراً إلى يَومِ الدَّينِ .
أمَّا بعدُ ، عبادَ اللهِ :
تَقوَى اللهِ U ، وَصِيتُهُ سُبحَانَهُ لِعِبَادِهِ ، الأولينَ والآخرينَ : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ، فَلنَتَقِ اللهَ ـ أحبتي في اللهِ ـ جَعَلني اللهُ وإياكُم مِنْ عِبَادِهِ المُتَقِينِ .
أيها الأخوةُ المؤمِنُون :
الأفضَلِيةُ مَطلَبٌ بَشَريٌ ، وَغَايةٌ إنسَانِيةٌ ، وَهَدفٌ يَنشُدُهُ أكثرُ النَّاسِ ، فَكلُ إنسَانٍ يُرِيدُ أنْ يَكونَ هُوَ الأفضَلُ ، يُرِيدُ أنْ يَكونَ هُوَ الذي يُشَارُ إليهِ في كلِ بَنَانٍ ، ويُتَحَدَثُ عَنهُ عَلى كُلِّ لِسَانٍ ، بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُصَابُ بِداءِ الحَسَدِ ، فَيَتَمنّى زَوالَ نِعْمَةِ غَيرِهِ ، لِكي لَا يَكونَ أَفْضَلُ مِنْهُ ، وَمَا انْتَشَرَتْ الأمرَاضُ في المُجتَمَعِ ، مِنْ غِيبَةٍ وَنَمِيمَةٍ وَاستِهزاءٍ وَاحْتِقَارٍ وَسُخْرِيَةٍ ، إلا مِنْ هَذَا البَاب .
تَأمَلُوا ـ أيها الأخوة ـ مَا يَبْذُلُهُ أكثرُ الناسِ ، مِنْ مَالٍ وَجُهدٍ وَوَقتٍ ، مِنْ أجلِ الحُصُولِ عَلى الأفضَلِيةِ ، وَالوصُولِ إلى التَّمَيُزِ ، بَلْ بَعْضُهم ـ تَمَكَنَتْ مِنْهُ هَذِهِ النَّزْعَة ، فوصلت به إلى درجة عَدَمِ المُبَالاةِ فِي أَوَامِرِ الدِّينِ ، وَمُخَالَفَةِ شَرْعِ رَبِّ العَالَمِين ، فَصَارَ يَرتَكِبُ كَبَائِرَ الذُنُوبِ ، وَلا يَتَوَرَّع عَنْ المُوبِقَاتِ مِنْ الآثَامِ ، وَمَا الإسّرَافُ والتّبذِيرُ ، وَفَسَادُ ذَاتِ البَينِ ، وَالحَسَدُ والبَغضَاءُ ، والانْتِقَامُ وَالاعْتِدَاءُ ، إلا مِنْ أَجلِ هَذَا المرَض الخَطِير ِ ، وبِسَبَبِ ذَلِكَ الشّرِ المستَطِير .
فَالأفضَلِيةُ ـ أيها الأخوة ـ والبَحثُ عَنهَا ، والوصُولُ إليهَا ، غَرِيزَةٌ إنسَانِيةٌ ، وَلَكنْ يَجِبُ ضَبْطُهَا بِضَوابِطِ الشَّرعِ ، ولِذَلِكَ اعتَنَى بِهَا الدينُ ، وبيَّنَ ضَوَابِطَها الشَّرعُ الحَكِيمُ ، فَفِي كِتَابِ اللهِ يَقُولُ U : } إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ { فَالفَاضِلُ المتَمَيزُ مِنْ النَّاسِ ، عِنْدِ اللهِ U ، هُوَ أتْقَاهُم حَتى وإنْ كَانَ مَنْ كَان .
اللهُ U ـ أيها الأخوة ـ كَمَا قَالَ النبيُ r فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ : (( إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكَنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ )) المِيزَانُ عِنْدَهُ سُبحَانَهُ مِيزَانُ التقوى ، ليس مِيزَانُ الحسبِ و النسبِ ، ولا الجاهِ والمنصبِ ، ولا المراتبِ والرتبِ ، فقط بِمقدَارِ طَاعَةِ العبدِ لَهُ ، وَقربِهِ مِنْه ، ومدى امتثالِهِ لأمرِهِ سبحانه .
ولذلك ـ أيها الأخوة ـ لما سأل النبي r عن أفضل الناس ، أشار ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ إلى هذا الميزان الرباني الهام ، كما في الحديث الذي رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ r أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ ؟ قَالَ : (( أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ )) ، قَالُوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ : (( فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ )) قَالُوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ ، قَالَ : (( فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي ! )) قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : (( فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا )) . أي إذا فقهوا أحكام الدين ، وعملوا بها .
أيها الأخوة المؤمنون :
فلا فضل ولا قيمة ، لأي إنسان كائن من كان ، إلا بهذا الدين ، مهما وصل الإنسان ، بماله أو منصبه ، أو نسبه ، أو جاهه ، فهو حقير مهين عند الله U ، بل وعند العقلاء من بني جنسه ، إن لم يكن متمسكا بدين الله تعالى ، فالناس كما قال النبي r في الحديث الذي ذكره ابن كثير في تفسيره : (( رجلان : رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله )) .
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنحذر المظاهر الزائفة ، فلا نرفع من وضعه الله ، ولا نضع من رفعه الله : } إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ { .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كَثِيراً .
أيها المسلمون :
لقد ضل كثير من الناس ، في الوصول إلى الأفضلية الحقيقية ، والحصول على الكرامة الربانية ، فصاروا يبحثون عنها ، في المظاهر الزائفة ، ويسلكون من أجلها الطرق المنحرفة ، فما زادهم ذلك من الله إلا بعدا .
اسأل الله U أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، يارب العالمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أصلح أحوال المسلمين ، واجعلهم هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، اللهم إنا نسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، يارب العالمين .
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد ، يعز فيه أهل طاعتك ، ويهدى فيه أهل معصيتك ، ويؤمر فيه بالمعروف ، وينهى فيه عن المنكر ، يا سميع الدعاء .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، أن تغيث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالأمطار ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريعا سحا غدقا مجللا نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل، غيثا تغيث به البلاد والعباد ، اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|