الأمر باستغلال العمر
الحَمْدُ للهِ } الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى { القائلِ في كِتَابِهِ : } وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى { .
أحْمَدُهُ حَمْداً يَلِيقُ بِكَرِيمِ وَجهِهِ ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ ، وَأشْهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ ، وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ : } لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى { ، وَأشْهَدُ أن مُحمَداً عبدُهُ ورسولُه ، وصفيُهُ وخليلُهُ ، بَعثَهُ رحمَةً للعالَمِين ، وقدوةً للسالِكين ، صَلى اللهُ عليهِ ، وعلى آلهِ وأصحابِهِ ، وَسلَّمَ تسليماً كَثيراً .
أمَّا بعدُ ، عبادَ اللهِ :
تَقوى اللهِ U ، وصيتُهُ سبحانَهُ ، لعبادِهِ الأولينَ والآخِرينَ ، فَهُوَ القائلُ فِي كِتَابِهِ : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتقِ اللهَ ـ أحبتي فِي اللهِ ـ جَعَلَنيِ اللهُ وإيَّاكُم مِنْ عِبَادِهِ المُتَقِين .
أيها الأخوةُ المؤمِنُون :
فَتْرَةُ وُجُودِ الإنسانِ فِي هذهِ الحياةِ ، هِيَ الْعُمرُ الذي قَدَّرَهُ اللهُ U لَهُ ، وَكَتَبَهُ عَلَيه ، وَهُوَ فِي بَطنِ أمهِ ، قبلَ أن يَخْرُجَ إلى هَذِهِ الدُنْيَا ، فِفِي حَدِيثِ البخاريِ ومسلمٍ ، يقولُ عبدُاللهِ بنُ مسعودٍ t : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ r ، وَهُوَ الصَّادِقُ المصّدُوق : (( إنَّ أحدَكم يُجمعُ خَلْقُهُ فِي بَطنِ أمِّهِ أربعينَ يوماً نُطفَة ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يُرْسَلُ إليهِ الملَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُوحَ ، ويُؤمرُ بأربعِ كَلِمَاتٍ : بِكتْبِ رِزقِهِ وَأجلِهِ وَعمَلِهِ وَشَقِي أو سَعِيد )) .
فَعُمُرِكَ ـ أَخي الُمسّلِمِ ـ يُعْتَبرُ قَضيةٌ مَحسُومَةٌ ، غَيرُ قَابِلَةٍ للتَفَاوضِ أو النّقَاشِ ، وَلا مَجَالَ فِيهَا للزيادةِ والنُقصَانِ ، كَمَا قَالَ تَبَاركَ وَتَعَالى : } وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُوَنَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ { ، أَيْ لَا يُمْهَلُونَ لَحْظَة ـ كَمَا قَالَ أَهلُ التفسِيرِ .
فَعُمُرُكَ ـ أخي ـ هَذِهِ صِفَةٌ مِنْ أبْرَزِ صِفَاتِهِ ، حَدَّدَهُ اللهُ U ، وَكَتَبَهُ وَقَدَّرَهُ ، قِبْلَ خُرُوجِكَ مِنْ بَطْنِ أُمِكَ إلى هَذِهِ الدُنْيَا ، وَلِذَلِكَ ـ أخي ـ يَجِبُ عَلَيْكَ أنْ تَهْتَمَ لَهُ ، وَتَعْتَنِيَ بِهِ ، وَتَجْعَلَهُ وَسِيلَةً لِرَفْعِ دَرَجَاتِكَ ، وَمَزْرَعَةً تَجْنِي مَنْهَا مَا يُثْقِلُ مِيْزَانِ حَسَنَاتِكَ ، لأنَّ كلَّ لَحظَةٍ تَمُرُ مِنْهُ ، يَسْتَحِيلُ تَعْوِيضُها ، وَيَصّعُبُ تَخْزِينُهَا .
أيّها الأخوةُ المؤمنُون :
إنَّ هَذا العُمُرُ ، المُحَدَّد ، الذي لَا يُسْتَرْجَعُ وَلا يُعَوّضُ ، جَعَلَهُ اللهُ U وَسِيْلَةَ اخْتِبَارٍ لِعِبَادِه ، وَأدَاةَ امْتِحَانٍ لِخَلْقِهِ ، يَخْرُجُونَ مِنْهُ ، إمَّا مُحْسِنِينَ وَإمَّا مُسِيئينَ ، فَكُلُ وَاحِدٍ مِنّا ـ أيها الأخوة ـ فِي نِهَايَةِ عُمُرِهِ ، إمّا مِنْ المُحْسِنِينَ ، وإمّا مِنْ المُسِيئِينَ ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ النّبيُ r فِي الحَدِيثِ الذِي صَحَّحَهُ الألبَانِيُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : (( خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ، وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ )) .
فَحَرِيٌ بِالمُسْلِمِ ـ أيها الأخوة ـ أنْ يُرَاجِعَ نَفْسَهُ ، وَيَتَأملَ بِمَا أمْضَى مِنْ سِنِينَ عُمُرِهِ ، يُحَاسِبُ نَفسَهُ عَلى عَمَلِهِ ، هَلْ هُوَ حَسَنٌ أمْ سَيئ ؟
هَذَا العُمُرُ ـ أيها الأخوة ـ الذِي أَلْمَحَ لَنَا النَّبيُ بِقِصَرِه ، فَقَالَ فِي الحَدِيثِ الذي رواهُ الترمِذِيُّ وابنُ مَاجَه ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ : ((أَعْمَارُ أُمَّتِي ، مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ )) ، حَرِيٌ بِكَ ـ أخي ـ أنْ تَجْلِسَ مَعَ نَفسِكَ ، تَتَأمل : كَمْ مَضَى لَكَ مِنْهُ ، وَتَتَذكَر أعْمَالَك ، التي عَمِلتَها فِيهِ ، هَلْ سَتَجِدُهَا فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِكَ أو سَيئَاتِك ؟
لأن اللهَ U سَوفَ يَسألُكَ عَنْ عُمُرِكَ ، نَعم ـ أخي ـ هَذِهِ الأيَّامُ والشُّهورُ والأعْوَام ، التي مَضَتْ مِنْ عُمُرِكَ ، وَمَا تَبَقّى لَكَ مِنْ العُمُر ، الذِي لَا يَعْلَمُ بِمِقْدَارِهِ إلا الله U ، سَوْفَ تُحَاسَبُ عَلَيه ، وتُسألُ عنه ، يَقولُ U : } أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى { ويقولُ النبيُ r فِي الحَدِيثِ الحسن الصحيح : (( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَومَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أفنَاهُ ؟ وَعَنْ عِلمِهِ فِيمَ فَعَلَ فِيهِ ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أيْنَ اكْتَسَبَهُ ؟ وَفيمَ أنْفَقَهُ ؟ وَعَنْ جِسمِهِ فِيمَ أبلاهُ ؟ )) .
فَحريٌ بِنَا ـ أيها الأخوة ـ أنْ نَقِفَ مَعَ أنفُسِنَا ، نُحَاسِبُهَا عَنْ أعْمَارِنَا ، وَنُرَاجِعُ مَعَهَا أعْمَالِنَا ، فَالأيامُ تَمْضِي ، والآجَالُ تَقْتَرِبُ .
اسألُ اللهَ لي وَلَكُم ، عِلماً نَافِعاً ، وَعَمَلاً صَالِحاً ، إنهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ ، أَقولُ قَولِي هَذَا وأسْتَغْفِرُ اللهَ ، لي وَلَكُم مِنْ كلِ ذنبٍ فَإنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها المسلمون :
إنَّ للتفريطِ فِي العُمُرِ ، عَواقِبُ وَخِيمَةٌ ، وَنتَائجُ أليمةٌ ، ولِذَلِكَ أَخْبَرَنا اللهُ U ، عَنْ حَالِ المُفَرِطِينَ فِي أَعْمَارِهِم ، الذِينَ مَضَتْ لَيَالِيهِم وَأيَّامُهُم ، وَهُم يَجرُونَ خَلْفَ شَهَواتِهِم وَمَلذَّاتِهم ، فَقَالَ تَعالى : } حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ { ، وقال تعالى : } وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ { .
هذه هي ـ أيها الأخوة ـ بعضُ صورِ المفرطينَ الغافلين ، يَسألونَ الرجوعَ والتأخير ، فليحذرْ كلُ واحدٍ منَّا ـ أحبتي في الله ـ هذا الموقف الخطير ، وليستغلْ عمرَهُ بما يَنفَعُهُ ، كي لا يكونَ من بين هؤلاء يوماً من الأيام .
لنعملَ الصالحاتِ ، دامنا قادرونَ علي عملِها ـ أيها الأخوة ـ ولنكن من الصالحين دام باستطاعتنا أن نكونَ منهم ، ولنحذر لصوصَ العمر ، الذين يجعلوننا نغفلُ عن أيامِنا وشهورِنا وأعوامِنا ، وعلى رأسهم الشيطانُ ، وطولُ الأملِ ، ورفاقُ السوءِ ، ولنبادر ـ أيها الأخوة ـ إلى العملِ للآخرةِ دون تأجيلٍ ولا تأخير ، فقد قالَ النبي r في الحديثِ الحسنِ : (( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا ، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ، أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم اجعلنا من الذين تطول أعمارهم ، وتحسن أعمالهم ، وبارك لنا في أعمارنا ، ووسع لنا في أرزاقنا ، واجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، يارب العالمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، هنيئا مريئا ، سحا غدقا ، عاجلا غي آجل ، نافعا غير ضار ، غيثا تغيث به البلاد والعباد ، اللهم اسق عبادك و بهائمك ، وانشر رحمتك على بلدك الميت ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {.
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|