إنهم الخوارج
الحمد لله، ذي القوة المتين، } لَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ { القائل في كتابه: } أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ، أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ { . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له، } قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، أمر بطاعته فقال: } وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ { صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن سار على نهجه ، وتمسك بسنته ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أَمَّاْ بَعْدُ ، فَيَاْ عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَىْ اللهِ U ، وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَاْدِهِ ، فَهُوَ الْقَائِلُ فِي كِتَابِهِ : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ؛ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ، فَلْنَتَقِ اللهَ - أَحِبَتِيْ فِيْ اللهِ - جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُتَقِيْن .
أَيُّهَا الإِخْوَةُ المُؤمِنُون :
روى البخاري - رحمه الله - في صحيحه ؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t، قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ t ، وَهْوَ بِالْيَمَنِ ، إِلَى النَّبِيِّ r، بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا ، فَقَسَمَهَا r ، بَيْنَ الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي مُجَاشِعٍ ، وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ ، وَبَيْنَ عَلْقَمَةَ بْنِ عُلاَثَةَ الْعَامِرِيِّ ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلاَبٍ ، وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْلِ الطَّائِيِّ ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ ، فَتَغَضَّبَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ ، فَقَالُوا : يُعْطِيهِ صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا ! قَالَ r: (( إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ )) . فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ ، كَثُّ اللِّحْيَةِ ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ . فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ! اتَّقِ اللَّهَ. فَقَالَ النَّبِيُّ r: (( فَمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ ، فَيَأْمَنِّي عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ ، وَلاَ تَأْمَنُونِي )) ، فَسَأَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ - قَتْلَهُ أُرَاهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - فَمَنَعَهُ النَّبِيُّ r ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ r : (( إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا ، قَوْمًا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ ، لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَاد )) وفي رواية ذكرها الإمام أحمد في مسنده ، قال r : (( يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ، رِجَالٌ كَأَنَّ هَذَا مِنْهُمْ هَدْيُهُمْ ، هَكَذَا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، ثُمَّ لاَ يَرْجِعُونَ فِيهِ ، سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ ، لاَ يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ ، حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الدَّجَّالِ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ ، فَاقْتُلُوهُمْ ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ )) .
أيها الإخوة :
إنهم الخوارج ، وهذه أبرز صفاتهم ، ذكرها الذي لا ينطق عن الهوى لأمته ، لمعرفتهم ، وللحذر من الوقوع في شراكهم ، والإندراج في معسكرهم ، فخطرهم لا يقل شأنا عن خطر اليهود والنصارى على الإسلام والمسلمين ، وخاصة - أيها الإخوة - أنهم كما قال النبي r : (( لاَ يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الدَّجَّالِ )) وأنهم كما جاء في بعض الأحاديث : (( يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ ))، أي من كتاب الله U ، يختارون ما يلبسون به على غيرهم ، وما يؤثرون به على من لا يفقه في دين الله U من ضحاياهم ، ولذلك قال الحافظ : كانت أول كلمة خرجوا بها قولهم : لا حكم إلا لله ، وانتزعوها من القرآن ، وحملوها على غير محملها . وهي كلمة حق أريد بها باطلا . فخطر الخوارج ، خطر يهدد أمن الأمة وسلامتها ، ولذلك حذرنا نبينا r ، من هذا الخطر فقال r : (( أنّهُم كُلّما خَرَجَ مِنْهُم قَرْنٌ قُطِع حتّى يكونَ آخِرُهُم معَ الدَّجّال )) ومما يزيد في خطرهم وشرهم وضررهم، أنهم يتكلمون من كلام خير البرية، أي الكتاب والسنة، ولكنهم يعتقدون ثم يستدلون، لديهم أهداف ومطامع ومساعي، فيبحثون لذلك عن دليل ، فمنهجهم لي عنق الأدلة لتوافق أهوائهم ، وأولئك هم أصحابنا في هذا الزمان ، الذين يربون بعض الشباب، التابعين لهم، على أن ولاة الأمر، موالون للكفار، طواغيت قد غيروا دين الله ! وبعد أن يتشرب تابعهم ، بهذا الفكر التكفيري الخارجي، تراه يبحث عن أي دليل يسعفه ويلبس به، فإذا أتيتهم بأحاديث رسول الله e ، بوجوب السمع والطاعة للأمراء، وأن الجهاد يكون خلفهم وبإذنهم، وأنه يحرم التحريض عليهم، والسعي في شق العصا ، عند ذلك ترى التفلت والتملص المخزي من هذه النصوص، وتأويلها، أو يقرون بها ويقولون: هي للخلفاء الراشدين الأربعة ، أو للقرشي ، أو لمن لا معصية عنده. بل قد يتجرءون ، ويقولون : هي للحاكم المسلم ، وليست لولاة أمرنا ، وفي هذا الكلام ما فيه .
الشاهد - أيها الإخوة - الخوارج ومن يحمل فكرهم المنحرف ، لا ينخدع بهم إلا من يجهل حقيقتهم ، ولذلك جملة أتباعهم ، كما قال النبي r في الحديث الصحيح : (( أحداثُ الأسنانِ ، سفهاءُ الأحلامِ )) أي صغار سن ، شباب ، وعقولهم رديئة ، وهذا مما يزيد في خطرهم ، فإذا اجتمعت قوة الشباب ، مع قلت العقل ، فالله المستعان .
فالذي عنده فقه في دين الله U ، لا يجهل حقيقة هؤلاء، ولا تنطلي على مثله طرقهم ، ووسائل وصولهم لاهدافهم ، ولذلك أشد عداوة الخوارج ، هي لمن يحذر منهم ، ولمن يعمل لتصدى لهم ، وفضح معتقاداتهم وأفكارهم ومخططاتهم .
يذكر العسقلاني في كتابه : الإصابة في تمييز الصحابة ، أن رجلا كان مع الخوارج ثمّ فارقهم ، يقول الرجل : دخلوا قرية ، فخرج عليهم عبد الله بن خبّاب ذَعِرًا . قالوا: لن تُرَاعَ ، قال : والله لقد رُعْتموني ، قالوا : لن تُرَاعَ ، قال : والله لقد رعتموني قالوا: أنت عبد الله بن خبّاب صاحب رسول الله ؟ قال : نعم ، قالوا: فهل سمعتَ من أبيك حديثًا يحدّثه عن رسول الله r ، تحدّثناه ؟ قال: نعم سمعتُ أبي يحدّث عن رسول الله ذِكْرَ فِتنةٍ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي والماشي فيها خيرٌ من الساعي قال : فإن أدركتَ ذاك فكن عبد الله المقتولَ، ولا تكن عبد الله القاتل قالوا : أسمعتَ هذا من أبيك يحدّثه عن رسول الله r ؟ قال : نعم . قال فقدّموه على ضفّة النهر فضربوا عنقه فسال دمه كأنّه شراك نعل وبقروا بطن زوجته أمّ ولده فبهذا استحلّ عليّ قتالهم في معركة النهروان .
هذه - أيها الإخوة - صفات الخوارج ، وبعض أعمالهم .
أسأل الله U أن يكفينا شرهم ، وأن يجعل كيدهم في نحرهم ، إنه قوي عزيز . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أَيُّهَا الإِخْوَةُ المُؤمِنُون :
ومما يزيد في خطر الخوارج ، على الإسلام والمسلمين ، مع جهلهم ، وخروجهم بين حين وآخر ، قول النبي r : (( يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ )) ولا أدل على ذلك مما حدث في الأيام الماضية ، في هذا الشهر العظيم ، الذي تضاعف فيه الحسنات ، وفي خير يوم طلعت عليه الشمس ، يوم الجمعة ، حيث اعتدى بعض أفراد هذه الفئة الضالة من الخوارج ، على رجال أمننا ، الذين يرابطون على حدود بلادنا ، وقتلهم لأربعة منهم ، وهم صائمون مرابطون ، فعلوا ذلك باسم الجهاد ونشر الدين، فأي دين وجهاد هذا ؟؟! والله U يقول : } وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا { .
أيّ دين، وأيّ جهاد ، يدعيهما هؤلاء ، فيستحلون دماء مسلمين ، صائمين ، مرابطين على ثغر من ثغور المسلمين ، والنبي r في الحديث الصحيح ، يقول : (( لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِ وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ )) .
نعم إنه دين الخوارج ، الذين يقتلون أهل الإسلام ، نسأل الله المغفرة والرحمة لمن قتلوا ، وعزاؤنا بما ذكره الطبراني ، عن أبي أمامة الباهلي، حينما أَبْصَرَ رُؤوسَ الْخَوَارِجِ عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r، يَقُولُ : (( كِلابُ أَهْلِ النَّارِ ، كِلابُ أَهْلِ النَّارِ ، كِلابُ أَهْلِ النَّارِ )) ثُمَّ بَكَى، وَقَالَ : شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ ، وَخَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ، فسأل t: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r ؟ قَالَ : إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ، سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَلا مَرَّتَيْنِ ، وَلا ثَلاثٍ .
فهنيئا لرجال أمننا ، فقتلهم على يد الخوارج ، خير لهم بشهادة النبي r .
أسأل الله U أن يحفظ لنا أمننا ورجاله، وولاة أمرنا، وعلماءنا ودعاتنا، إنه سميع مجيب .
اللهم مَنْ أرادنا بسوء اللهم اشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره سببا لتدميره، ياقوي يا عزيز . اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا في هذا الشهر العظيم، اَللّهُمَّ اجْعَلْ صِيامنا فيهِ صِيامَ الصّائِمينَ وَ قِيامنا فيِهِ قِيامَ القائِمينَ، وأيقظنا من رقدة الغافلين ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اَللّهُمَّ قَوِّنا فيهِ عَلى إقامَةِ أَمرِكَ ، وَأَذِقنا فيهِ حَلاوَةِ ذِكْرِكَ ، وَأَوْزِعْنا فيهِ لِأداءِ شُكْرِكَ ، وَاحْفَظْنا فيهِ بِحِفظِكَ وَسَتْرِكَ يا رب العالمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120 |