الثروة المهدرة
الحمد لله ،} الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ { الكريم الحليم الصبور ، } الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، بعثه } لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ { ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U وصية الله لكم ولمن كان قبلكم ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا ـ رحمكم الله ـ بأنه من نعم الله U على عباده : وجود علماء بالشرع بينهم ، يعلمون جاهلهم ، ويذكرون غافلهم ، ويرشدون ضالهم ، كما قال الإمام الآجري في وصفه لهم : تفضل الله عليهم ، فعلمهم الكتاب والحكمة ، وفقههم في الدين ، وعلمهم التأويل ، وفضلهم على سائر المؤمنين وذلك في كل زمان وأوان ، رفعهم بالعلم ، وزينهم بالحلم ، بهم يعرف الحلال من الحرام ، والحق من الباطل ، وفضلهم عظيم ، وخطرهم ـ أي قدرهم ـ جزيل ، ورثة الأنبياء ، وقرة عين الأولياء ، حياتهم غنيمة ، وموتهم مصيبة ، يذكرون الغافل ، ويعلمون الجاهل ، ولا يتوقع لهم بائقة ، ولا يخاف منهم غائلة ، جميع الخلق إلى علمهم محتاج ، وهم سراج العباد ومنار البلاد ، وقوام الأمة ، وينابيع الحكمة هم غيظ الشيطان ، بهم تحيا قلوب أهل الحق ، وتموت قلوب أهل الزيغ . هكذا وصفهم ذلك العالم رحمه الله .
فوجود فئة من الناس ، هذه صفاتهم ـ أيها الأخوة ـ نعمة من أعظم نعم الله U على عباده ، وثروة من أهم ثروات المجتمع ، بل والأمة ، وصدق الآجري ـ رحمه الله ـ هم سراج العباد ومنار البلاد ، وقوام الأمة .
أيها الأخوة :
إن هذه الثروة الموجودة بيننا ، وفي مجتمعنا ، زهد فيها كثير من الناس ، بل هي ثروة مهدرة ، وإن وجد بعض المستفيدين منها ولكنهم قلة ، وخاصة عندما نقارنهم مع الكثرة الذين لا يوجد لهذه الثروة مجالا في جداول حياتهم ، ولا حصة في برامج اهتماماتهم ، فصارت رموزهم اللاعبين والفنانين ، والمغنين والممثلين ، والشعراء والمهرجين والمهيجين ، فكانت النتيجة هي ما آل إليه المجتمع ، من جهل في الدين ، وبعد عن شرع رب العالمين ، وتعلق بهذه الدنيا ، من خلال الحرص على مناصبها ومراتبها ، والتمتع المفرط في مآكلها ومشاربها ، وصدق على كثير من المسلمين قول النبي e في حديث ثوبان الصحيح : (( بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ )) . فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ : (( حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
اتصل بي شاب من فلسطين ، وكان ممن درس في هذه البلاد المراحل الثلاث ، الآبتدائية والمتوسطة والثانوية ، يقول ما ندمتي على شيئ كندمي أني لم أطلب العلم الشرعي على أيدي علماء السعودية ، وهذه شهادة ـ أيها الأخوة ـ لعلمائنا وتميزهم عن غيرهم من العلماء ، وتبين حاجة الأمة لما في صدورهم من علم شرعي ، ووالله إن قلب المؤمن ليحزن ويتصدع ، عندما يرى اهتمام المسلمين بعلمائنا في جميع أنحاء العالم ، وحرصهم على الاستفادة منهم ، وزهد القريبين منهم بهم !
إنهم ـ أيها الأخوة ـ يأتون لطلب العلم عند علماء هذه البلاد من أمريكا ومن الهند ، ومن أكثر دول العالم ، ويحرصون على دروسهم حتى عبر الهواتف ، ومواقع الأنترنت ، وأكثرنا لايبعد عنه أحدهم خطوات ، ولكنه أزهد الناس بهم ، هذا إن لم ينالهم شره بالقدح في نياتهم ، واتهام مقاصدهم ، والتحذير منهم ، بل والتهكم بهم ، كما يفعل المنافقون عبر أعمدة صحفهم ، ومنتديات مواقعهم .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن إهدار هذه الثروة العظيمة ، والزهد بالاستفادة منها ، والآستخفاف بقيمتها ، نذير شر ، ودليل خطر ، ومؤشر ضرر لهذه الأمة ، ففي الحديث الذي رواه البخاري يقول النبي e : (( مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ )) والفقه في الدين لا يأتي إلا عن طريق هؤلاء العلماء ، ولن يناله من زهد فيهم ، ولن يكون من أهله من أعرض عن مجالسهم ، ومن لم يرد به الله خيرا فإنه على خطر عظيم .
أيها الأخوة :
يقول أحدهم : كن عالما أو متعلما أو مجالسا أو محبا ولا تكن الخامس فتهلك ، فما أكثر الهالكين في مجتمعات المسلمين ، الذين لهم دور كبير في إهدار هذه الثروة العظيمة ، والتي بكى من أجلها معاذ t عند موته ، فلما سأل قال : اللهم إني لم أحب البقاء في الدنيا ، لا لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، إنما أبكي لظمأ الهواجر وقيام الليالي المظلمة ، ومزاحمة العلماء بالركب ، ومجالسة أناس ينتقون أطايب الكلام ، كما ينتقى أطايب الثمر .
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنحرص على الاستفادة من علمائنا ، الموجودين بيننا ، وفي متناول أيدينا ، فقد كان سلفنا الصالح ، يتكبدون المشاق ، ويتحملون عناء السفر ، في سبيل الوصول إلى العلماء ، ومِن أول مَن سافر لطلب العلم الصحابة -رضوان الله عليهم ، وقد رحلوا من الأمصار المختلفة والقبائل المختلفة إلى النبي e فأبو أيوب الأنصاري t رحل من المدينة إلى عقبة بن عامر بـمصر يسأله عن حديث سمعه من النبي e وكذلك جابر بن عبد الله t رحل إلى عبد الله بن أنيس في الشام شهرًا كاملاً من أجل حديث واحد فقط .
وكذلك ـ أيها الأخوة ـ طلب العلم وبذل الجهود من أجله هو ديدن من يريد الله والدار الآخرة ، من زمن الصحابة وحتى يرث الله الآرض ومن عليها ، وكما قال تبارك وتعالى : } وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا { يقول
سعيد بن المسيب رأس التابعين - رحمه الله : إن كنت لأسير في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام . ويقول الشعبي : لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ، فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره ، رأيت أن سفره لا يضيع ، ورحل شعبة بن الحجاج - رحمه الله - للبحث في أصل حديث واحد من الكوفة إلى مكة ، ومن مكة إلى المدينة ، ومن المدينة إلى البصرة .
اسأل الله U أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
لقد مَنّ الله U علينا في هذه البلاد ، بكثير من العلماء وطلاب العلم والقضاة ، الذين هم على ماكان النبي e عليه وأصحابه ، الذين هم على الصراط المستقيم ، الذين لم يسلكوا سبل شياطين الجن والأنس ـ نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا ـ وهم نتيجة ما قامت عليه هذه البلاد من دعوة مباركة ، تحت مضلة قيادة موفقه ، وتعليم صحيح وتربية سليمة ، وعلى سبيل المثال ـ أيها الأخوة ـ هذه جامعاتنا الشرعية التي تعنى بعلوم الدين تخرج سنويا آلاف الرجال ، بشتى تخصصات الدين ، من قضاء ودعوة وفقه وحديث وغيره ، وهؤلاء ينبغي الآستفادة منهم ومن علمهم.
ولا شك ـ أيها الأخوة ـ أن لهؤلاء نصيب من عدم الاستفادة منهم ، فيجب عليهم أن ينزلوا إلى الناس ليعلمونهم أمور دينهم ، ويبينوا لهم ما ينفعهم بآخرتهم ، وليحذروا أن يكون علمهم من أجل رواتبهم ومراتبهم ، فقد قال تبارك وتعالى : } وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ { يقول الشافعي ـ رحمه الله ـ لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم ، ويقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ : يجب علينا تعلم اربع مسائل :الأولى : العلم ، وهو معرفة الله ، ومعرفة نبيه ، ومعرفة دين الاسلام بالأدلة . الثانية : العمل به . الثالثة : الدعوة اليه . الرابعة : الصبر على الأذى فيه .
فيجب على مَنْ مَنَّ الله U عليه بالعلم ، أن يعلمه الناس وأن يدعوهم له ويصبر على ما يناله من أذى في سبيل ذلك ، لكي لا يكون من الخاسرين .
أيها الأخوة :
إن مَن يتعلّم العِلْم الشرعي لا يَتَعلَّمه إلاَّ لِينال به دُنيا ، فهو على خطر عظيم . ففي الحديث :الصحيح يقول النبي e : (( بَشِّر هذه الأمة بالسَّناء والرِّفعة والدِّين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عَمِل منهم عَمل الآخرة للدنيا لم يَكن له في الآخرة نَصِيب )) .
أيها الأخوة :
إن ترك هؤلاء للساحة ، وعدم القيام بواجبهم في تعليم الناس دينهم ، ترك المجال لمن هب ودب ، من المهيجين والمهرجين ، والمبتدعة والمنافقين ، لدعوة الناس إلى المناهج الباطلة ، والسبل الشيطانية ، والجماعات المبتدعة ، والأحزاب الضالة ، فتصدوا لدعوة الناس ، وتصدروا المجالس والمنابر ، والنتيجة كما قال النبي e في الحديث الصحيح : (( اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا )).
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واحرصوا على الاستفادة من العلماء ، احضروا دروسهم ، اقرأوا كتبهم ، استمعوا لأشرطتهم ، اتصلوا بهم ، واتقوا الله يامن علمكم الله من علمه ، انزلوا إلى الناس في مساجدهم ، اقيموا الدروس والمحاضرات لهم ، لا تغلقوا هواتفكم فالناس بحاجتكم ، لا يصير همكم دراهمكم ، ومصالحكم الشخصية ، فسوف يسألكم الله U ، وكما في الحديث : (( لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن علمه ماذا عمل به ))
اسأل الله أن يجعلنا جميعا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين إنه سميع مجيب.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم احفظ وسدد ووفق علمائنا وولاة أمرنا ودعاتنا ، اللهم من أرادنا بسوء الله اشغله بنفسه ، واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره سببا لتدميره يارب العالمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريعا سحا غدقا مجللا عاجلا غير آجل ، نافعا غير ضار ، غيثا تغيث به البلاد والعباد ، وتسقي به الحاضر والباد ، سقيا رحمة لا عذاب ولا هدم ولا غرق ، اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|