التّوكل على الله عزّ وجلّ
إنّ الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوب إليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمد عبده و رسوله و صفيه و خليله و أمينه على وحيه ومبلِّغ الناس شرعه ما ترك خيراً إلا دلّ الأمة عليه و لا شراً إلا حذّرها منه فصلوات الله وسلامه عليه و على آله و صحبه أجمعين أما بعد؛
معاشر المؤمنين عباد الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعه ويراه.
عباد الله، إنّ من الطّاعات العظيمة و فرائض الإسلام الجليلة التّوكلَ على الله تبارك و تعالى في جلب المنافع و دفع المضار و تحصيل المصالح الدنيوية والأخرويّة مع الاعتقاد التام أن الله تبارك و تعالى هو وحده المولى و نعم الوكيل فلا وكيل إلا الله و لا يجوز للعبد أن يتخذ وكيلا غير الله قال الله تعالى: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾ [المزمل: 9]. و قال جلّ و علا: ﴿ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً﴾ [الإسراء: 2] فأمر جلّ و علا عباده بأن يتّخذوه وكيلاً و نهاهم جلّ و علا أن يتخذوا من دونه وكيلا والوكيل اسم لله جلّ و علا و معنى ذلك أي الذي يُتوكّل عليه ويُعتمد عليه و تفوض الأمورُ كلُّها إليه و تكون الثقة به جلّ و علا وحده ويكون إليه المفزع و الملجأ.
والله جلّ و علا ذكر التّوكل في كتابه في مواضع كثيرة من القرآن و ذكره جلّ و علا شريعة لجميع الأنبياء و نهجاً لجميع المرسلين قال الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام: ﴿ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ [يونس: 71]، وقال عن نبيِّه موسى عليه السلام: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾، و قال جلّ و علا عن نبيِّه شعيب عليه السلام: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88]، وقال عن نبيه هود عليه السلام: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56]، وقال عن نبيِّه يعقوب عليه السلام: ﴿ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [يوسف: 56]، وقال عن نبيِّه وخليله إبراهيم عليه السلام قال: ﴿ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [الممتحنة: 4]، وقال وعن نبيِّه محمّد عليه الصّلاة والسّلام سيِّد المتوكِّلين صلى الله عليه و سلم قال: ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ، فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 128 ـ 129]، وقال جلّ وعلا: ﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ [الرّعد: 30].
والآيات في بيان توكّله على الله واعتماده عليه سبحانه كثيرة جدّاً بل إنّ الله عزّ وجلّ سماه في التوراة المتوكِّل كما ثبت في ذلك الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه و قد خرجّه البخاريُّ في كتابه الصّحيح فهو عليه الصلاة و السلام متوكل على الله ملتجأ إليه جل و علا و هو متوكل و ليس وكيلا قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ [الأنعام: 107]، الوكيل وحده هو الله سبحانه عباد الله و قد ذكر الله التوكل نعتاً لعباده المؤمنين و صفة لأوليائه المقربين قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً﴾ [الأنفال: 2ـ 4]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
عباد الله، والتوكل عبادة قلبية مكانها القلب و هي تقوم على أصلين عظيمين لابد من قيامهما بالقلب ليكون العبد متوكِّلاً على الله حقّاً و صدقا
الأمر الأول: علم العبد بالله وأنه سبحانه الوكيل و لا وكيل سواه و أنّه الرّب العظيم المدبِّر المسخر الذي بيده أزمّة الأمور، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن عليم بالعباد سميع لأصواتهم بصير بأعمالهم مطلِّع عليهم لا تخفى عليه منهم خافية قال الله تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الشعراء: 217 ـ 220]، و قال جلّ و علا: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ﴾ [النساء: 81]، وقال جلّ وعلا : ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ﴾ [الفرقان: 58].
والأصل الثاني ـ عباد الله ـ عمل القلب و هو اعتماده على الله و حسن التجاءه إليه وحسن تفويضه الأمور إلى الله جلّ و علا اعتماداً و التجاءً و تفويضاً فلا يكون في القلب التفات إلى الأسباب ولا اعتماد عليها، وإنما يكون القلب معتمداً على الله جلّ وعلا مفوِّضاً الأمور كلّها إليه في جميع مصالح العبد الدينيّة والدنيويّة.
والتّوكل ـ عباد الله ـ عبادة تصاحب المسلم في كل شؤونه و جميع أموره الدينية و الدنيوية فهو يتوكل على الله في جلب مصالحه الدنيوية من طلبٍ للرزق و تحصيلٍ للمعاش و غير ذلك من المصالح الدنيوية، و يتوكل على الله في تحصيل مصالحه الدينية فهو في كل ذلك محتاج إلى الله لا غنى له عن ربِّه طرفة عين، فهو يلتجأ إليه ليقوم بالعبادات والطّاعات ويلتجأ إليه سبحانه ليحصِّل المنافع و المصالح و جميع الحاجات.
عباد الله والتوكل على الله جلّ و علا لا يتنافى مع فعل الأسباب بل فعلها من تمام التوكل و لهذا كان سيِّد المتوكلين عليه الصلاة و السلام يباشر الأسباب و يأمر بفعلها ومباشرتها قال صلى الله عليه و سلم: (( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِز )) و قال عليه الصّلاة و السّلام للرجل الذي سأله عن ناقته، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَال: (( اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ)) فأرشده إلى فعل الأسباب وجاء في الترمذي من حديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: (( لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ))، فذكر فعلها للأسباب و هو غدوّها في الصباح الباكر لطلب العيش و البحث عن الرزق و لهذا جاء عن عمر رضي الله عنه أنه سمع بنفر خرجوا من ديارهم بلا قوت و لا زاد و قالوا: نحن المتوكِّلون قال: "بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل على الله الذي يلقي حبه في الأرض - أي يضع البدر- و يتوكل على الله".
وبهذا يعلم ـ عباد الله ـ أنّ التوكل على الله لابد معه من فعل الأسباب التي يحصل بها العبد مصالحه الدينية و الدنيوية ولا يكون قلبه ملتفتاً للأسباب ولا معتمداً عليها ولا واثقاً بها بل تكون ثقته بالله وحده وتوكّله عليه وحده و تفويضٌ لأمره إلى الله وحده.
اللّهمّ مُنَّ علينا أجمعين بأن نكون من المتوكِّلين عليك حقّاً و صدقاً وأعنَّا يا ذا الجلال و الإكرام و وفقنا لما تحبُّه و ترضاه إنّك سميع الدّعاء وأنت أهل الرجاء و أنت حسبنا و نعم الوكيل.
الحمد لله على إحسانه والشُّكر له على منِّه وجوده و امتنانه، و أشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه و أشهد أن محمد عبده و رسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله و أصحابه و أعوانه أما بعد؛
عباد الله، اتقوا الله تعالى.
عباد الله، التّوكل عبادة عظيمة و فريضة جليلة لا يجوز صرفها إلا إلى الله جل و علا الحي الذي لا يموت و تأمّلوا قول الله تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ فالتوكل لا يكون إلا على من هذا شأنه الحي الذي لا يموت و هو الله تبارك و تعالى أما مَنْ سوى الله فهو إمّا حيٌّ سيموت، أو حيٌّ قد مات، أو جماد لا حياة له، وكلُّ هؤلاء لا يتوكل عليهم و إنما يتوكل على الحي الذي لا يموت سبحانه و تعالى و لهذا كان نبيُّنا كما في الصحيحين يقول في دعائه: (( اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِى أَنْتَ الْحَىُّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ )).
عباد الله، وصلوا وسلِّموا على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ الأحزاب56، و قال عليه الصلاة و السلام: ((من صلّى عليّ صلاةً واحدةً صلّى الله عليه بها عشراً)).
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد و على آل محمد كما باركت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارضَ اللّهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر و عمر و عثمان و علي وارضَ اللّهمّ عن الصّحابة أجمعين وعن التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك و إحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللّهمّ أعزّ الإسلام و المسلمين و أذلّ الشرك و المشركين و دمِّر أعداء الدّين، اللّهمّ احمِ حوزة الدين يا ربَّ العالمين.
اللّهمّ آمنا في أوطاننا و أصلح أئمتنا و ولاة أمورنا و اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك و اتبع رضاك يا ربّ العالمين. اللّهمّ وفِّق ولي أمرنا لهداك و اجعل عمله في رضاك و أعنه على طاعتك و ارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا ربّ العالمين.
اللّهمّ أعنّا و لا تعن علينا و انصرنا و لا تنصر علينا و امكر لنا و لا تمكر علينا واهدنا و يسِّر الهدى لنا و انصرنا على من بغى علينا. اللّهمّ اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين إليك أوّاهين منيبين لك مخبتين لك مطيعين. اللّهمّ تقبل توبتنا و اغسل حوبتنا و أجب دعوتنا و ثبِّت حجّتنا و سدد ألسنتنا واهد قلوبنا و اسلل سخيمة صدورنا.
اللّهم اهدنا لما تحبه و ترضاه. اللّهم أصلح لنا شأننا كلَّه يا ذا الجلال و الإكرام، اللّهم اغفر ذنوب المذنبين من المسلمين اللّهم و تب على التائبين الهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، اللّهم و اشف مرضانا و مرض المسلمين، اللّهم فرج هم المهمومين من المسلمين و فرِّج كرب المكروبين واقضِ الدَّيْن عن المدينين، اللّهمّ و يسِّر لنا أمورنا أجمعين و لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم أنت حسبنا و نعم الوكيل.
﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.
عباد الله، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم و لذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. |