الضعفة والمساكين
الحمد لله رب العالمين ، خلق آدم من طين ، وجعل نسله من ماء مهين ، أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، حمدا لا ينفد ولا يعد ، ولا يحصر ولا يحد ، } فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، صح عنه قوله : (( اللهم أحيني مسكيناً ، وتوفني مسكيناً ، واحشرني في زمرة المساكين )) صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد عباد الله :
اتقوا الله U ، فقد أمركم سبحانه بذلك وقال : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين
أيها الأخوة المؤمنون :
كفالة اليتيم ، والاعتناء به ورعايته ، كان موضوع حديثنا في الجمعة الماضية ، ومن المناسب ـ أيها الأخوة ـ أن يكون حديثنا في هذا اليوم ؛ عن الاهتمام بالضعفة والمساكين ، تلك الشريحة من الناس ، التي لا تقل أهمية عن الأيتام ، فإن كان الأيتام بحاجة لمن يعوضهم عناية ورعاية واهتمام آبائهم ، فالضعفة والمساكين بحاجة إلى من يرعى حقوقهم ، وإلى من يقوم بواجباتهم ، بحاجة ماسة إلى من ينفس كربهم ، ويرفع الضيم والظلم عنهم ، وهذا الأمر ـ أيها الأخوة ـ هو ما يفتقده أكثر الضعفاء والمساكين اليوم بين الناس ، والسبب هو جهل هؤلاء الناس ـ الجفاة ـ وبعدهم عن تعاليم دينهم ، وإعراضهم عما يرضي ربهم U .
أيها الأخوة :
إن وجود الضعفاء والمساكين ، في المجتمع ، فرصة عظيمة للتقرب إلى الله سبحانه ، ووسيلة وطريق إلى الجنة ، بل وجودهم سبب للرزق والنصر ، بإذن الله تعالى ، ففي الحديث الذي صححه الألباني رحمه الله ، يقول النبي r : (( أبغوني ضعفاءكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم )) ، وعند احمد والنسائي عن أبي الدرداء t يقول الرسول r : (( إنما تنصرون وترزقون بضعفائك )) قال أهل العلم : لأن الضعفاء أشد إخلاصا في الدعاء ، وأكثر خشوعا في العبادة لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخارف الدنيا !
فوجود الضعفاء والمساكين ـ أخي المسلم ـ في حيك أو في شارعك ، أو في مدينتك ، بل أو في منطقتك ، والله نعمة عظيمة ساقها الله إليك ، لأنهم سوقك ومتجرك إلى جنة عرضها السموات والأرض ، يقول U : } وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ { أخي المسلم ، أنت يا من تسمع هذا الكلام ! هل تريد هذه الجنة ، التي عرضها كعرض السموات والأرض ؟ التي أعدها الله U لعباده المتقين !
والله إنك تريدها ، والدليل على هذا : صلاتك وصيامك وحجك ، برك بوالديك ، صلتك لرحمك ، حرصك على صلاح أبنائك ، ارتيادك للمسجد في كل يوم خمس مرات ، هذا أكبر دليل ، بأنك تريد هذه الجنة !
اسأل الله U أن لا يحرمني وإياك منها .
فإذا كنت تريدها ، وأظنك كذلك ، فتأمل صفات هؤلاء المتقين ، الذين أعد الله U لهم هذه الجنة العجيبة ، قال تعالى : } أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ { بالله عليك أخي ، لو خلى المجتمع من الفقراء والمساكين ، ستنفق على من ، من سيأخذ نفقتك لتكون من أهل تلك الجنة ؟
أيها الأخوة :
ومع أن وجود الضعفاء والمساكين ، فرصة وغنيمة للأغنياء ، فالويل لمن تجاهل حقوقهم ، والويل لمن قصر بواجباتهم ، والويل لمن شبع وهم يتضورون جوعا ، الويل لمن ينفق الملايين على شهواته وملذاته ، وعلى أشياء ليس من ورائها إلا التفاخر والمباهاة ، ويترك هؤلاء الضعفاء والمساكين ، تصعب عليهم لقمة يأكلونها ، أو سيارة يركبونها ، أو إيجار بيت يدفعونه .
روى الطبراني عن ابن عباس t أن النبي r قال : (( ليس المؤمن ، الذي يشبع وجاره جائع )) وفي صحيح مسلم عن أنس t يقول صلوات ربي وسلامه عليه : (( والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن الضعفاء والمساكين ، في هذا المجتمع الذي أنعم الله U عليه بأنواع النعم ، هم بحاجة ماسة لوقفة إخوانهم الأثرياء ، بحاجة ماسة لمساعدة من ابتلاهم الله بالمال ، وكثرته ، ووفرته ، كما ابتلى المساكين والضعفاء ، بقلته وندرته : } فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ { هؤلاء الأغنياء ، انتبه أخي الثري ، لا تغرك أرصدتك ، فأنت مبتلى ، فقم بحق الله عليك في مالك ، تصدق على هؤلاء ، سدد ديونهم ، أعطهم من مال الله الذي أعطاك ، فالذي ابتلاهم بالحاجة إليك ابتلاك بالغنى ، فأنت بحاجة إليهم ، ليأخذوا نفقتك ، فالحاجة ابتلاء أيضا لهم } وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ { هؤلاء هم الفقراء والمساكين ، فكلكم مبتلى ، الغني مبتلى ، والمسكين مبتلى ، فانتبه يا عبد الله لهذا الأمر الخطير .
أيها الأخوة :
إن نظرة المجتمع للفقراء والضعفة والمساكين ، بحاجة إلى تأمل وإعادة نظر ، يكفي إهانة لهم وهم طوابير عند أبواب الجمعيات الخيرية ، وهم ينتظرون فائض الولائم ، وهم واحد خلف الآخر عند بعض التجار من أجل علبة حليب ، أو كيس أرز لا يتجاوز العشر كيلوات ، والله رأينا نساء يطفن يسألن العمال ـ وما أدراك ما بعض العمال ـ في صناعية السيارات ، أين أنتم يا معشر الأغنياء ؟ إذا كان وجد منكم من يشتري تيسا بمئات الآلاف ، فما بال أختكم المرأة تطوف بين عمال بعضهم كفرة وفسقه ، لا يبالون بعرض ولا شرف ، فما هو العذر أمام الله U يوم القيامة ، ما عذرك أخي وحسابك في البنك بالآلاف ، وأختك المسلمة لا تجد حليبا لأطفالها ؟
في الحديث الصحيح يقول الرسول r : (( إن الله U يقول يوم القيامة : يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده . يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني ! قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ! أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي . يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني ! قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه ، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي )) .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
إننا في هذا المجتمع ، يكاد أن يقع بحقنا قول القائل : يمشي الفقير وكل شيء ضده
والناس تغلق دونه أبوابها
وتراه مبغوضاً وليس بمذنب
ويرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة
خضعت لديه وحركت أذنابها
وإذا رأت يوماً فقيراً عابراً
نبحت عليه وكشرت أنيابها
إنهم ـ أيها الأخوة ـ صاروا عند بعض الناس فرصة لشراء أرقام الأراضي بالمخططات ، وفرصة لتجار الصابون ، ومحلات الجوالات المستعملة ، بل فرصة لهتاك الأعراض ومروجي المخدرات ، فاتقوا الله عباد الله ، واهتموا بضعفائكم وفقرائكم ، واعتنوا بمساكينكم فإن لهم عند الله U وعند رسوله r منزلة عظيمه ، يكفيهم أنهم هم أكثر أهل الجنة ، كما في الحديث المتفق عليه يقول r : (( اطَّلعتُ في الجنّة فرأيتُ أكثرَ أهلها الفقراءَ ...)) وفي الحديث المتفق عليه أيضا ، يقول r : (( ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ، ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتل جواظ مستكبر )) ، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي r قال : (( احتجت الجنة والنار ، فقالت النار : في الجبارون والمتكبرون ، وقالت الجنة : في ضعفاء الناس ومساكينهم ، فقضى الله بينهما : إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء ، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء ، ولِكِلَيكما علي ملؤها )) .
ويكفيهم ـ أيها الأخوة ـ أن الواحد الصالح منهم ، خير من ملء الأرض من غيرهم ، ففي الحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد الساعدي t قال : مر رجل على النبي r ، فقال لرجل عنده جالس : (( ما رأيك في هذا ؟ )) فقال : رجل من أشراف الناس ، هذا والله حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع . فسكت رسول الله r ، ثم مر رجل آخر ، فقال له رسول الله r : (( ما رأيك في هذا ؟ )) فقال : يا رسول الله ، هذا رجل من فقراء المسلمين ، هذا حري إن خطب أن لا ينكح ، وإن شفع أن لا يشفع ، وإن قال لا يسمع لقوله . فقال رسول الله r : (( هذا خير من ملء الأرض مثل هذا )) .
اسأل الله U أن يرزقنا حب الضعفاء والمساكين ، اللهم إنا نسألك كل عمل يقربنا من جنتك ويبعدنا عن نارك ، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا ، هنيئًا مرئيًا ، سحًا مجللاً ، عامًا نافعًا غير ضار، عاجلاً غير آجل ، اللهم تُسقي به البلاد ، وتغيث به العباد ، وتجعله بلاغًا للحاضر والباد ، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق ، اللهم اسق عبادك وبلادك وبهائمك ، وانشر رحمتك ، وأحي بلدك الميت .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|