نـاقـضـة غـزلـها
الحمد لله ذي الفضل والإحسان ، الرءوف المنان ، خلق الإنس والجان ، الذي فلق الحب والنوى ، والذي يعلم السر والنجوى ، سبحانه من إله ، } يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { .
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
اتقوا الله U ، فلا فلاح إلا بتقوى الله : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين.
أيها الأخوة المؤمنون :
المحافظة على الأعمال الصالحة ، ومعاهدتها والحذر مما يكون سبب في بطلانها ؛ مطلب شرعي ، إذا عملت ـ أخي المسلم ـ عملا صالحا ، فإنه ينبغي لك ، بل يجب عليك ، أن تحافظ عليه ، يجب عليك أن تحرص على عدم إفساده .
ومن السفه ـ والله ـ أن يعمل المسلم عملا ، ويشقى من أجل إتقانه ، ثم يعمل أشياء تجعل ذلك العمل هباء منثورا ، وهذا أمر ذكره الله U في كتابه ، يقول تعالى في سورة النحل : } وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً { ذكر الله U هذه الآية بعد قوله تعالى : } وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ { ثم ذكر هذه الآية فقال } وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً .... { .
أي أفوا بعهد الله ، وإياكم ونقض الأيمان بعد توكيدها ، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها ، التي نقضت غزلها ـ أيها الأخوة ـ إمرأة في مكة ، كانت تأتي بالصوف وتعده للغزل حتى يجهز ، ثم تغزله ، حتى إذا أكتمل قامت بنقضه ، تنقضه بنفسها ، حتى تجعله كأن لم يغزل ، تفعل ذلك باختيارها ، من سفاهتها وحمقها .
إمرأة حمقاء ، تعمل العمل ولا تحافظ عليه ، إنما تقوم بنفسها على إفساده ، ما رأيكم ـ أيها الأخوة ـ بهذه المرأة ؟
لاشك أنها امرأة حمقاء ، بلغت من السفه مبلغا عظيما ، ولذلك جعلها الله U مثلا ، للذين لا يفون بعهده ، الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها .
وجعلها الله U أيضا عبرة لنا ، لنحافظ على أعمالنا ، لنرعى أعمالنا الصالحة ، لنحذر من آفات حسناتنا ! وإن لم نكن كذلك ، فنحن كتلك المرأة ، بسفاهتها وحمقها وغبائها ، التي } نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً {
أيها الأخوة :
قبل أيام ، ودعنا شهر رمضان ، ودعناه بعد أن أودعناه ، بعض الأعمال الصالحة ، التي نسأل الله U أن يتقبلها منا ، من صيام وقيام ونفقة وتلاوة قرآن وغير ذلك . فينبغي لنا أن نحافظ على أجر هذه الأعمال ، ونحذر كل الحذر مما يكون سببا في إحباط ثوابها .
نعم ـ أيها الأخوة ـ نحن ماعملنا تلك الأعمال إلا بغية الأجر من الله ، فعندنا يقين بأن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ولكن يجب علينا الحذر ، بأن لا نكون كتلك المرأة الحمقاء ، التي تقوم بنقض غزلها بنفسها ، فتذهب تلك الحسنات ، وتلك الأجور هباء منثورا .
أيها الأخوة :
ولكي نحافظ على حسناتنا ، يجب علينا أولا أن لا نغتر بمقدار أعمالنا ، وأن لا يجد العجب مدخلا إلى قلوبنا ، إنما نعمل ونرجوا رحمة الرحمن سبحانه ، ففي الحديث عن أبي هريرة t قال : قال النبي e : (( لن يُدخل أحداً منكم عملُه الجنة )) قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : (( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة )) فلا يتكل أحدنا على عمله ، لأنه لا يدرى أقبل عمله أم لا ، فربما لم يقبل ذلك العمل ، ومن صفات أهل الإيمان أنهم يعملون الأعمال ، ويعقبونها الخوف والوجل ، يقول الله تعالى : } وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ{ لما سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها هذه الآية ، سألت النبي e عن هؤلاء الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة فقالت : أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ فقال لها النبي e : (( لا يا بنت الصديق ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولائك الذين يسارعون في الخيرات ))
فالإتكال على العمل مصيبة ، بعض الناس بعد رمضان ، يتجرأ على بعض المعاصي ، إتكالا على أنه أكثر من الحسنات في رمضان ، وكأنه يقول قد غفر الله لي في رمضان وها أنا أفتح صفحة جديدة ، لا تضرها هذه المعاصي . وما يدريك يا مسكين أغفر الله لك أم لم يغفر ، وما يدريك أقبل الله عملك أم رده عليك ، فاحذر وكن على خوف ووجل .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن أسباب المحافظة على الحسنات ، البعد عن آفاتها ، والحذر من الوقوع بمحبطاتها ، فللحسنات آفات ومحبطات ، تقضي عليها وتجعلها هباء منثورا والعياذ بالله ، ومن ذلك : إنتهاك المحرمات ، ففي الحديث الذي صححه الألباني يقول الرسول e : (( لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله U هباء منثورا )) لا إله إلا الله ـ أيها الأخوة ـ حسنات عظيمة ، أمثال الجبال ! وأي جبال ؟ جبال تهامة ؛ تنتهي هكذا ! يجعلها الله هباء منثورا ! كارثة أيها الأخوة .
قال ثوبان ، راوي الحديث ، يا رسول الله صفهم لنا ، جلهم لنا ، أي أخبرنا بهم ، أن لانكون منهم ونحن لا نعلم . قال r : (( أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ))
تأمل ، أتو بحسنات أمثال جبال تهامه ! تلك الجبال العظيمة في حجمها ، فجعلها الله هباء منثورا . إخواننا ، ومن جلدتنا ، ويأخذون من الليل كما نأخذ ، ولكن ذهبت حسناتهم فصارت هباء منثورا . لماذا ؟ لأنهم إذا خلوا .. خلوا .. بمحارم الله إنتهكوها . نسأل الله العافيه .
اللهم أيقضنا من رقدة الغافلين ، وأغثنا بالإيمان والليقين ، واجعلنا من عبادك الصالحين الصادقين المخلصين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن أسباب المحافظة على الحسنات ، احترام حقوق المسلمين ، وتأدية واجباتهم ، والحذر من التعدي على أعراضهم أو أموالهم أو دمائهم ، لأن من فعل شيئا من ذلك ، صار من المفلسين ، الذين يدخلون النار بسبب سيئات غيرهم ، ففي الحديث عن أبي هريرة t عن النبي e أنه قال : (( أتدرون ما المفلس ؟ )) قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال : (( إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار )) . فمعاملتنا السيئة لإخواننا المسلمين ، تكون وبالا على حسناتنا ، وسببا من أسباب عدم الاستفادة منها والعياذ بالله .
ومن أسباب المحافظة على الحسنات ، الحذر الشديد من داء الأمم ، الحسد ، الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، روى الترمذي عن الزبير بن العوام t أن النبي e قال : (( دب إليكم داء الأمم : الحسد والبغضاء ، هي الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم ؟ أفشوا السلام بينكم )) .
فلنحذر الحسد ولنطهر منه قلوبنا ففي الحديث الذي رواه ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قيل لرسول الله e : أي الناس أفضل ؟ قال : (( كل مخموم القلب ، صدوق اللسان )) قالوا : صدوق اللسان نعرفه . فما مخموم القلب ؟ قال e : (( هو التقي النقي . لا إثم فيه ولا بغي ولاغل ولا حسد )) .
فالحسد مضاره وخيمة ، وعواقبه أليمة ، خشي منه النبي e على أمته . قدم أبو عبيده t بمال من البحرين في عهد النبي e ، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيده . فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله e فلما صلى رسول الله e انصرف ، فتعرضوا له . فتبسم رسول الله e حين رآهم ، ثم قال : (( أظنكم سمعتم أن أبا عبيده قدم بشيء من البحرين ؟ )) فقالوا : أجل . يا رسول الله . قال : (( فابشروا وأملوا ما يسركم . فو الله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم )) قال العلماء : التنافس إلى الشيء المسابقة إليه وكراهة أخذ غيرك إياه ، وهو أول درجات الحسد .
اسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، ورزقا واسعا ، وتوبة نصوحا إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء يا رب العالمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار .
اللهم إنا نسألك أن تغفر ذنوبنا ، وتستر عيوبنا ، وتسدد ديوننا ، وتنفس كروبنا ، وتحيي قلوبنا ، وتزكي نفوسنا ، وتشفي مرضانا ، وترحم موتانا ، وتعافي من ابتليته منا يارب العالمين .
اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم وفقنا لهداك ، واجعل عملنا في رضاك إنك سميع مجيب .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|