اَلْوَصِيَّةُ فِيْ اَلْنَّظْرَةِ
اَلْسَّوُيَّةِ
الْحَمْدُ للهِ الْقَائِلِ ؛ ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ
وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ، أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِكَرِيمِ
وَجْهِهِ ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ،﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ
آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَقُدْوَةً لِلسَّالِكِينَ،
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ ، وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَصِيَّتُهُ
لِعِبَادِهِ ، وَخَيْرُ زَادٍ يَتَزَوَّدُ بِهِ الْعَبْدُ فِي حَيَاتِهِ
لِمَعَادِهِ ، يَقُولُ جَلَّ جَلَالُهُ : ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ، وَيَقُولُ - عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَائِلٍ
ـ : ﴿وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - جَعَلَنِي
اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ .
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ :
فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
قَالَ : «
انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ
فَوْقَكُمْ ؛ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ » . وَالنَّظَرُ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ ، هُوَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَتَقْسِيمِهَا
، وَهِيَ وَاللهِ وَصِيَّةٌ نَبَوِيَّةٌ عَظِيمَةٌ كَرِيمَةٌ ، فَمَا مِنْ
إِنْسَانٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا ، إِلَّا وَفَوْقَهُ
مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ ، وَتَحْتَهُ مَنْ هُوَ أَدْنَى مِنْهُ ، وَلِذَلِكَ
يَقُولُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ
قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا
وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ .
يَتَنَافَسُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ـ أَيُّهَا
الْإِخْوَةُ ـ عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا ، وَيَتَسَابَقُونَ إِلَى حُطَامِهَا ،
وَقَدْ يَتَصَاْرَعُوْنَ وَيَتَقَاْطَعُوْنَ مِنْ أَجْلِهَاْ ؛ لِأَنَّ نَظَرَهُمْ
إِلَى مَنْ فَوْقَهُمْ ، وَلَوْ عَمِلُوا بِوَصِيَّةِ نَبِيِّهِمْ ـ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ؛ لَهَانَتْ عِنْدَهُمُ الدُّنْيَا وَحُطَامُهَا .
وَمِمَّا لَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ فِيهِ ؛ أَنَّ
التَّنَافُسَ عَلَى الدُّنْيَا وَحُطَامِهَا ، مَمْقُوتٌ وَمَذْمُومٌ شَرْعًا ،
وَسَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ ـ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ ـ فَفِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَعَثَ أَبَا
عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، فَقَدِمَ
أَبُو عُبَيْدَةَ ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بِقُدُومِهِ ، فَوَافَوْا صَلَاةَ
الفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ
تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: « أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا
عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ ؟ » ، قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قَالَ: «
فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى
عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا
بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا،
وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ » .
فَالتَّنَافُسُ عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا ،
سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ ، إِذَا صَارَ هَمُّ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ
أَكْثَرَ مِمَّنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ ، ازْدَرَى نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ ،
وَهَانَ فَضْلُهُ عِنْدَهُ ، وَفِي هَذَا هَلَاكُهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ ،
يَقُولُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ : « لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى
وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ
اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ».
فَلَا يَنْبَغِي ـ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ـ أَنْ
تَكُونَ الدُّنْيَا مَيْدَانًا لِلتَّنَافُسِ ، هِيَ وَاللهِ أَحْقَرُ مِنْ ذَلِكَ
، فَانْظُرْ يَا عَبْدَ اللهِ إِلَى مَنْ هُوَ تَحْتَكَ ، انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ
دُونَكَ ، إِذَا كَانَ فِي جَيْبِكَ مِائَةُ رِيَالٍ ، فَانْظُرْ إِلَى مَنْ لَا
شَيْءَ فِي جَيْبِهِ . إِنْ كَانَ رَاتِبُكَ لَا يَكْفِيكَ فِي شَهْرِكَ ،
فَانْظُرْ إِلَى مَنْ أُودِعَ السِّجْنَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ دَيْنِهِ ، إِذَا
كُنْتَ مُعَافًى فِي جَسَدِكَ ، فَانْظُرْ إِلَى مَنْ أَقْعَدَهُ الْمَرَضُ ،
وَتَأَمَّلْ هَلْ أَغْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ مَالُهُ ؟
انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ يَا عَبْدَ
اللهِ ، وَاحْمَدِ اللهَ عَلَى نِعَمِ اللهِ عَلَيْكَ ، يَقُولُ النَّبِيُّ ـ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ : « مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ،
مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ
الدُّنْيَا » ، وَيَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ .
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ
الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ
الْحَكِيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ
ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ
لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ،
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى
آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
مِمَّا لَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ فِيهِ : أَنَّ
هَذِهِ الْوَصِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ الْعَظِيمَةَ الْكَرِيمَةَ ، خَاصَّةً فِي
أُمُورِ الدُّنْيَا ، أَمَّا أُمُورِ الدِّينِ، وَمَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ ،
فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، إِذَا كَانَ
لَا يَصُومُ إِلَّا رَمَضَانَ، يَنْظُرُ إِلَى مَنْ يَصُومُ رَمَضَانَ وَمَعَهُ
الِاثْنَيْنُ وَالْخَمِيسُ، إِذَا كَانَ يُصَلِّي فَقَطِ الصَّلَوَاتِ
الْمَفْرُوضَةَ وَالسُّنَنَ الرَّوَاتِبَ ، يَنْظُرُ إِلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ
وَمَعَهُ قِيَامُ اللَّيْلِ ، إِنْ كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِأَلْفِ رِيَالٍ ،
فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ تَصَدَّقَ بِثَلَاثَةٍ ، وَهَكَذَا ؛ لِأَنَّ التَّنَافُسَ
فِي هَذَا الْمَجَالِ تَنَافُسٌ مَطْلُوبٌ ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
: ﴿ وَفِي ذَلِكَ
فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ ، وَقَوْلِهِ : ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ .
أَسْأَلُ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَنْ لَا
يَجْعَلَ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا ، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا ، وَلَا إِلَى
النَّارِ مَصِيرَنَا ، بِرَحْمَتِهِ فَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى
وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا سُعَدَاءَ ،
وَتَوَفَّنَا شُهَدَاءَ وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْأَتْقِيَاءِ يَا رَبَّ
الْعَالَمِينَ .
اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذُنُوبَنَا وَنَفِّسْ
كُرُوبَنَا وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا ، وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ .
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.
عِبَادَ اللهِ :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ . فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ،
وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ،
وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120 |