الزلازل والبراكين والحكمة في حدوثها
الخطبة الأولى
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد، أَيُّها الناسُ: اتقوا اللهَ تَعالَى،
وتَذَكَّرُوا نِعَمَ اللهِ عَلَيكُم، واشكُرُوهُ عليها: ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ). وَمِن أَعْظَمِ
نِعَمِ اللهِ، هذِهِ الأرضُ التي تَمْشُون عَلَى ظَهْرِها، التي بارَكَ اللهُ فيها
وَقَدَّرَ فيها أَقْواتَها، وجَعَلَها ذَلُولًا وَقَرَارًا، أَيْ قَارَّةً ثابتَةً
لا تَتَحَرَّكُ ولا تَمِيدُ، وأَرْساها بالجِبالِ حَتَّى نَتَمَكَّنَ مِنْ
البِناءِ عليها والعَيْشِ عَلَى ظَهْرِها، والْمَشْيِ فِي مَناكِبِها. ولِتَكُونَ
مِهادًا ومُسْتَقَرًّا لِلحَيَوانِ والنباتِ والأَمْتِعَةِ، ولِيَتَمَكَّنَ
الحيوانُ والناسُ مِن السَّعْيِ عليها والْمَشْيِ في مَناكِبِها والجُلُوسِ
لِراحَتِهِم والنَّوْمِ لِهُدُوئِهِم والتَمَكُّنِ مِن أَعْمالِهِم، ولَوْ كانَتْ
رَجْرَاجَةً مُتَكَفِّئَةً، لَمْ يَسْتَطِيعُوا على ظَهْرِها قَرارًا ولا هُدُوءًا،
ولَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ عِمَارَتِها، وتَحْقِيقِ الْمَصالِحِ فيها. وكثيرٌ مِنَ
الناسِ إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ، في غَفْلَةٍ عَنْ التَفَكُّرِ في عِظَمِ هذه
النِّعْمَةِ، حتى يَرَوْا ما يَضْطَرُّهُم إلى ذلك، حِينَما يَرَوْنَ أو
يَسْمَعُونَ، بالزَّلازِلِ أو الخُسُوفِ، أو البَرَاكِين، التي تَحْدُثُ بِأَمر اللهِ
سُبحانَه. والناسُ مُنْقَسِمُون في شأنِها وحُدُوثِها
إلى قِسْمَين: قِسْمٌ لا
يُقِيمُ لِهَذِه الآياتِ وَزْنًا، ويَرَى أَنَّها مِنْ الظَّوَاهِرِ الطبيعيةِ
التي تَحْدُثُ أحيانًا نتيجةَ انضِغاطِ البُخارِ في جَوْفِ الأَرْضِ كما
يَنْضَغِطُ الرِّيحُ والماءُ في الْمَكانِ الضَّيِّقِ، فإذا انْضَغَطَ طَلَبَ
مَخْرَجًا فَيَشُقُّ وَيُزَلْزِلُ ما قَرُبَ مِنْهُ مِن الأرضِ، وما شابَهَ ذلك
مِن الكلامِ والتَحْلِيلِ الذي يَذْكُرُه الجُيوُلُوجِيُّون حَوْلَ الزَّلازِلِ
والهَزَّاتِ الأرضِيَّة، وَمَنْ تَأَثَّرَ بِما يَقُولُون. وَقِسْمٌ يَرَى
بِأَنَّ ما حَدَثَ إنَّما هُوَ بِأَمْرِ اللهِ وَحْدَه وَلِحِكْمَةٍ بالِغَة،
وإِنْ حَصَلَتْ بالأَسبابِ الْمَذْكُورَةِ. ولِحُدُوثِها حِكَمٌ وأَسبابٌ لا يُدْرِكُها إلا أصحابُ القُلُوبِ
الحَيَّةِ مِن المُؤمنين: فَمِنْ أسبابِها:
التَّذْكِيرُ بِنِعْمِةِ سُكُونِ الأرضِ وقَرارِها وثَباتِها. ومِنْ أسبابِها:
التَّذْكِيرُ بِكَمالِ قُدْرَةِ اللهِ وَوَحْدانِيَّتِه، فالعِبادُ تَحْتَ
قَبْضَتِه، وَأَمْرُهُم بِيَدِه. ومِن أسبابِها:
تَخْوِيفُ العِبادِ وتَذْكِيرُهُم كَيْ يُحاسِبُوا أَنْفُسَهُم ويَتُوبُوا مِن
ذُنُوبِهِم ومَعاصيهِم. قال تعالى: ( ومَا نُرْسِلُ
بالآياتِ إلا تَخْوِيفا ). رَوَى البَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ ( أَنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما صَلَّى
لِزَلْزَلَةٍ بِالبَصْرَة ). لِأَنَّها آيَةٌ مِن آياتِ اللهِ يُخَوِّفُ
اللهُ بها العِباد. ومِنْ أسبابِها:
الذنوبُ والْمَعاصِي، وقَدْ دَلَّت نُصُوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ عَلَى ذلِك: قالَ
تَعالَى في قَوْمِ شُعَيْب: ( فَأَخَذَتْهُم
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا في دارِهِم جاثِمِين ). وقالَ رسولُ اللهِ صلى
اللهُ عليه وسلم: ( سَيَكُونُ في آخِرِ الزَّمانِ
خَسْفٌ وَقَذْفٌ وَمَسْخٌ، قِيلَ: وَمَتَى ذلكَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: إذا ظَهَرَتْ الْمَعَازِفُ والقَيْناتُ ) والقَيْناتُ: هُنَّ الْمُغَنِّياتُ والراقِصات. وقَدْ تَكُونُ
الزلازِلُ عَذابًا في الدُّنيا وتَطْهِيرًا ورحمةً لِلْمُسلِمِين.
كَمَا فِي قَوْلِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم عَنْ هِذِه الأُمَّة: ( عَذَابُها فِي الدنيا الفِتَنُ والزلازلُ والقَتْل
). ولأنَّه يُعْتَبَرُ مِنَ الهَدْم، وَقَدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
( الشهداءُ خَمْسَة: الْمَطْعُونُ والْمَبْطُونُ
والغَرِقُ وصاحِبُ الهَدْمِ والشهيدُ في سبيلِ الله ). عِبادَ الله:
الزلازلُ والخَسْفُ، تُذَكِّرُ الْمؤمنَ بِيَوْمِ القيامةِ، بِيَوْمِ
الزَّلْزَلَةِ الكُبْرَى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ). ( إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ
بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ). ( يَوْمَ
تَرْجُفُ الأرض والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً )، ( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ
الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ) . وَلَا يَسْلَمُ في ذلكَ اليَوْمِ العَظِيمِ
إلَّا مَنْ بَذَلَ أَسْبَابَ النَّجاةِ. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الخطبة الثانية الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً
. أَمّا بَعدُ عباد الله: إذا
حَدَثَ في الأرضِ زِلْزَالٌ أو خَسْفٌ أو تَحْذِيرٌ بِقُرْبِ ما يَدُلُّ على ذلك،
فلا يَلِيقُ بالْمُؤْمِنِ أَنْ يَغْفَلَ عَنِ التَّوْبَةِ والإنابَةِ والاستغفارِ
والدُّعاءِ والتَضَرُّعِ ومُحاسبةِ النفسِ وتَصْحِيحِ الحالِ والإِكثارِ مِن
الصَّدَقَة. ومِنْ ذلك: أَنْ يُواظِبَ عَلَى أَوْرادِ الصَّباحِ والْمساءِ، لا
سِيَّما وأنه وَرَدَ فيها ما يَدُلُّ على أسبابِ السلامةِ مِن خَطَرِ الخَسْفِ
والهَدْمِ، روى أحمدُ وأبو داودَ عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما
قال: لَمْ يَكُن رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هؤلاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ
يُمْسِي وحينَ يُصْبِح: ( اللَّهُمَّ إنِّي أسأَلُكَ
العافِيَةَ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إنِّي أسأَلُكَ العَفْوَ
والعافِيَةَ فِي دِينِي ودُنْيايَ وَأَهْلِي ومالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي
وَآمِنْ رَوْعاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي،
وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ
أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي ). قالَ وَكِيعُ بْنُ الجَرَّاحِ وَهُوَ أَحَدُ
رُواةِ هَذَا الحديثِ فِي قَوْلِهِ: ( وَأَعُوذُ
بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي ): يَعْنِي الخَسْفَ. اللَّهُمَّ
احْفَظْنا مِنْ بَيْنِ أيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنا، وَعَنْ أيْمانِنَا وَعَنْ
شَمائِلِنَا وَمِنْ فَوْقِنَا، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ
تَحْتِنَا، اللهم إنا نعوذُ بِكَ مِن الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، الَّلهُمَّ
آتِ نُفُوسَنَا تَقْواها، وَزَكِّها أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاها، اللهم خلّصنا من
حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا في الحلالِ مِن رزقِك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين،
اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أنزل على
الْمسلمين رحمة عامة وهداية عامة، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك
والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن الْمستضعفين
من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين،
اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم عليك بأعدائها في الداخل والخارج، اللهم أخرجها
من الفتن والشرور والآفات، واجعلها أقوى مما كنت، وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت،
وأصلح مما كانت، اللهم أصلح حكامها وأهلها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم
يدا واحدة على من عداهم يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، (وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ). وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|