الْوَاجِبُ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَكَاسِبِ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا،
وَدَبَّرَ عِبَادَهُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ وَكَانَ بِهِمْ لَطِيفًا خَبِيرًا،
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ وَكَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَيْهِ بِإِذْنِهِ
وَسِرَاجًا مُنِيرًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ
لِعِبَادِهِ : }وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ{ ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَاعْلَمُوا
رَحِمَكُمُ اللهُ بِأَنَّنَا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ نَنْعَمُ بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ لَا
تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى ، يَصْدُقُ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ : }وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا
إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ{، وَمِنْ أَبْرَزِ هَذِهِ النِّعَمِ - أَيُّهَا
الْإِخْوَةُ - التَّوْحِيدُ وَالْوَحْدَةُ وَالْأَمْنُ وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ ،
وَالسَّلَامَةُ مِنْ ظُهُورِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الَّتِي بُلِيَ بِهَا
غَيْرُنَا ، ائِتُونِي بِبِلَادٍ غَيْرِ هَذِهِ الْبِلَادِ تَحَقَّقَتْ لَهَا هَذِهِ
النِّعَمُ مُجْتَمِعَةً ؛ آمِنُونَ فِي دُورِنَا ، لَا نَخْشَى عَلَى دِمَائِنَا وَلَا
عَلَى أَعْرَاضِنَا وَلَا عَلَى أَمْوَالِنَا وَلَا عَلَى عُقُولِنَا ، مُوَحِّدُونَ
لِخَالِقِنَا ، وَلَا مَظَاهِرَ لِلشِّرْكِ بَيْنَنَا ؛ لَا أَضْرِحَةَ يُطَافُ حَوْلَهَا
، وَلَا مَزَارَاتٍ تُشَدُّ الرِّحَالُ لَهَا ، فِي أَعْنَاقِنَا بَيْعَةٌ نَدِينُ
اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا ، وَنَسْمَعُ وَنُطِيعُ لِمَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَنَا
، وَنَعْتَبِرُ كُلَّ مَا سَبَقَ مِنَ الْمُسَلَّمَاتِ الَّتِي لَا شَكَّ وَلَا جِدَالَ
فِيهَا . فَهَلْ رَأَيْتُمْ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - بِلَادًا كَهَذِهِ الْبِلَادِ
؟
وَمَعَ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الْجَلِيلَةِ أَضِفْ : خِدْمَةَ ضُيُوفِ
الرَّحْمَنِ لِإِكْمَالِ الْإِسْلَامِ ، وَالْقِيَامِ عَلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ
، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَلَا شَكَّ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - أَنَّ
مَا نَنْعَمُ بِهِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَمِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى : }وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ{ ، وَمِنْ حَقِّ وَوَاجِبِ النِّعَمِ شُكْرُهَا
، فَإِذَا شَكَرْتَ قَرَّتْ وَزَادَتْ : }وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ{ يَقُولُ ابْنُ سِعْدِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي تَفْسِيرِهِ : }وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ{ أَيْ: أَعْلَمَ وَوَعَدَ، }لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ{ مِنْ نِعَمِي }وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ{ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمُ النِّعْمَةَ الَّتِي أَنْعَمَ
بِهَا عَلَيْهِمْ . وَالشُّكْرُ : هُوَ اعْتِرَافُ الْقَلْبِ بِنِعَمِ اللهِ ، وَالثَّنَاءُ
عَلَى اللهِ بِهَا ، وَصَرْفُهَا فِي مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى . وَكُفْرُ النِّعْمَةِ
ضِدُّ ذَلِكَ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ :
إِنَّ مَا نَنْعَمُ بِهِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، هُوَ مِنْ مُكْتَسَبَاتِ هَذَا
الزَّمَانِ ، وَهُوَ أُمْنِيَّةُ كُلِّ إِنْسَانٍ عَاقِلٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالْكُلُّ مَسْؤُولٌ عَنِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا
عَلَى ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْإِسْلَامِ ، فَاللَّـهَ اللهَ أَنْ يُؤْتَى الْإِسْلَامُ
مِنْ قِبَلِكَ ! اللهَ اللهَ أَنْ تُؤْتَى بِلَادُ الْإِسْلَامِ وَرَمْزُ الْمُسْلِمِينَ
مِنْ قِبَلِكَ يَا عَبْدَ اللهِ؛ فَلَا تَسْمَحْ لِعَدُوٍّ غَاشِمٍ، وَلَا لِجَاهِلٍ
حَاقِدٍ نَاقِمٍ، وَلَا لِمُتَرَبِّصٍ مُعْتَدٍ ظَالِمٍ؛ أَنْ يَنَالَ مِنْ هَذِهِ
الْبِلَادِ الطَّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ
ذَبَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَذُبُّ
عَنْ مَأْرِزِ الدِّينِ، وَقِبْلَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَبَلَدِ تَحْكِيمِ
شَرْعِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلْنَكُنْ يَدًا وَاحِدَةً، لِلْحِفَاظِ عَلَى هَذِهِ
الْبِلَادِ الطَّاهِرَةِ ؛ بِالتَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْعَمَلِ
بِشَرْعِهِ، وَالْعَضِّ بِالنَّوَاجِذِ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، شِعَارُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : }أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا{ . بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ،
وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ،
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ،
فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى
تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
سَمِعْتُمْ بَعْضَ مَا أَنْعَمَ بِهِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ
الْبِلَادِ، وَمَا يُمَيِّزُنَا عَنْ غَيْرِنَا، بَلْ مَا تَفَرَّدْنَا بِهِ عَنْ
بُلْدَانِ الْعَالَمِ، وَلَكِنْ يُوجَدُ مَنْ لَا يَعْتَرِفُ بِهَذِهِ النِّعَمِ، وَمَنْ لَا يُبَالِي بِهَا؛ وَذَلِكَ إِمَّا لِجَهْلِهِ أَوْ لِانْحِرَافٍ فِي
فِكْرِهِ، أَوْ لِسَفَهٍ فِي عَقْلِهِ ، وَإِنْ تَعْجَبْ فَاعْجَبْ مِمَّنْ أَنْعَمَ
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ ، وَلَا
يَرْضَى بِمَا أَنْعَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَلَيْهِ، حَالُهُ كَحَالِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى طَعَامًا
طَيِّبًا نَافِعًا هَنِيئًا سَهْلًا، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: }يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ
فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا
وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ{ يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي تَفْسِيرِهِ : فِيهِ تَقْرِيعٌ لَهُمْ
وَتَوْبِيخٌ عَلَى مَا سَأَلُوا مِنْ هَذِهِ الْأَطْعِمَةِ الدَّنِيئَةِ مَعَ مَا
هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ وَالطَّعَامِ الْهَنِيءِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ
.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ ، وَحَافِظُوا عَلَى نِعَمِهِ بِشُكْرِهِ وَطَاعَتِهِ
.
أَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعِينَنَا جَمِيعًا عَلَى ذِكْرِهِ
وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ ، وَأَنْ يَحْفَظَ لَنَا عَقِيدَتَنَا وَأَمْنَنَا
وَوَحْدَتَنَا وَوُلَاةَ أَمْرِنَا إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ .
اللَّهُمَّ يَا مُنْزِلَ الْكِتَابِ ، وَيَا
مُجْرِيَ السَّحَابِ ، وَيَا سَرِيعَ الْحِسَابِ ، وَيَا هَازِمَ الْأَحْزَابِ ،
اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِمَنْ حَارَبَ بلاد الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمِينَ ،
اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْبُغَاةِ الْمُجْرِمِينَ ، وَالطُّغَاةِ الْمُعْتَدِينَ ،
وَالْحَاقِدِينَ وَالْحَاسِدِينَ لبِلَدِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ .
اللَّهُمَّ إِنَّا
نَسْأَلُكَ نَصْرَ جُنُودِنَا عَلَى حُدُودِنَا ، اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ نَصْرًا
مُؤَزَّرًا . اللَّهُمَّ كُنْ لَهُمْ عَوْنًا وَظَهِيرًا ، وَوَلِيًّا وَنَصِيرًا
. اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَمْيَهُمْ ، وَارْبِطْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَقَوِّ
عَزَائِمَهُمْ ، وَاحْفَظْ أَرْوَاحَهُمْ ، وَعَجِّلْ بِنَصْرِهِمْ ، وَرُدَّهُمْ
إِلَى أَهْلِيهِمْ رَدًّا جَمِيلًا ، عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ ، بِرَحْمَتِكَ يَا
أَرْحَمَ الرَّاحِمِين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عِبَادَ اللهِ :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { .
فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ
يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا: http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120
|