وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ
خطبة جمعة بتاريخ / 6-8-1437 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهدِه الله فلا مضلَّ له , ومن يُضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له , أسبغ على العباد النعمة ، ووالى عليهم المنَّة ، فله الحمد أولًا وآخرا وظاهرًا وباطنا على كل نعمة أنعم بها في قديمٍ أو حديث ، أو سر أو علانية ، أو خاصة أو عامة ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعدُ أيها المؤمنون : اتقوا الله ربكم ، وراقبوه في جميع أعمالكم ، واذكروا نعمته عليكم ؛ فإن نعمه لا تُعد ولا تحصى ، ومننه وآلاءه لا تُستقصى ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل:18] ، ورؤوس النِّعم الإسلام ؛ الذي لا تتم نعمةٌ إلا به ، والعافية التي لا تطيب الحياة إلا بها ، والمال الذي لا يستقيم العيش إلا به ، والأمن الذي لا تنتظم المصالح إلا به ، ومن أصبح آمنًا في سربه معافًى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما أوتي الدنيا بحذافيرها .
أيها المؤمنون : إنَّ الله جل في علاه امتنَّ على العباد بإسباغه النعم وموالاته المنن وتسخيره لهم ما في السماوات وما في الأرض ، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان:20] ، فيا عبد الله اذكر نعَم الله عليك الظاهرة والباطنة ، وكن دومًا مستعملًا لها في مراضيه ، مجانبًا استعمالها في مساخطه جل في علاه .
أيها المؤمنون : وإذا كان العبد على ذكرٍ لإسباغ الله عز وجل النعمة عليه الظاهرة والباطنة ؛ فليكن في الوقت نفسه على ذكرٍ بأن الله عز وجل حرم عليه الآثام والمعاصي الظاهرة والباطنة ، فلا يليق أيها المؤمنون بعبدٍ أسبغ الله عليه نعمه الظاهرة والباطنة أن يقابل ذلك بعصيان المنعِم جل في علاه بالمعاصي الظاهرة والباطنة ، قال الله تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾ [الأنعام:120] ، ويقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأنعام:151] . نعم أيها المؤمنون ؛ إن الواجب على العبد أن يكون على حذرٍ تام ومجانبةٍ مستمرة للذنوب والمعاصي الظاهرة والباطنة مجاهدًا نفسه مستعينًا بربه ، والله جل في علاه يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69] .
§ أيها المؤمنون : ويعين على هذه المجانبة للذنوب ظاهرها وباطنها أن يذكِّر المرء نفسه بنعم الله عليه الظاهرة والباطنة، وليقل لنفسه : يا نفس لا يليق بك وقد والى الله عليك النعم ومنَّ عليك بالمنن أن تقابلي نعمة الله بالعصيان ومبارزته بالآثام الظاهرة والباطنة .
§ ويعينه على هذه المجانبة : أن يذكر أن المنعِم عليه بهذه النعم مطَّلعٌ على أعماله كلها لا تخفى عليه من أعمال العبد خافية ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ [الرعد:10] ، فالكل عند الله سواء ؛ يرى أعمال العباد ، ويطَّلع على أحوالهم ، ويبصر حركاتهم وسكناتهم ، فلا تواري منه سماءٌ سماءً ولا أرضٌ أرضا ، ولا يحجُب عنه جل في علاه ظاهرٌ باطنا ، فالباطن عنده جل وعلا ظاهر ، والسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة ، لا تخفى عليه خافية ، أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا .
§ ويعين على هذه المجانبة : أن يذكُر العبد أنَّ أعماله كلها صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها محصًى عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر:52-53] ، فلا يليق بعبدٍ يدرك أن الأعمال محصاة وأن الديَّان لا ينام وأنه مطلعٌ على العباد أن يبقى سادرًا في غيِّه مستمرًا في عصيانه .
أيها المؤمنون : وعلى العبد في هذا المقام أن يكون على حذرٍ من الذنوب كلها لا أن يكون محاذرًا للذنوب المشاهدة الظاهرة واقعًا في الذنوب الباطنة الخفية ؛ إذا خلوتَ الدهر يومًا فلا تقُل خلَوت ولكن تذكَّر أن عليك رقيبًا مطلعًا سبحانه وتعالى .
أيها المؤمنون : وليست الذنوب منحصرة كما يظن بعض الناس في أعمال تظهر ، بل كم من الذنوب الباطنة التي يبتلى بها كثير من الناس وربما لا يشعر بوقوعه فيها وقلبه متلوثٌ بها من آثام القلوب المتنوعة ؛ كالعقائد الفاسدة ، والعزوم الباطلة ، والنوايا السيئة ، وآفات القلوب وأمراضها المتنوعة .
فعلى العبد أن يكون مجاهدًا نفسه على صلاحها وسلامتها من الآثام الظهرة والباطنة ، وليبادر بالتوبة إلى ربه ومولاه من كل ذنب وخطيئة وقع سرًا أو علانية في قديم أو حديث سواء كان دقيقًا أو جليلا ، فليبادر بالتوبة إلى الله من ذلك كله وليكثر من الاستغفار ، يستغفر ربه مولاه من كل ذنوبه الظاهرة والباطنة . روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده : «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ» ، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
أقولُ هذا القول وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من ذنوبنا كلها دقها وجلّها ، أولها وآخرها ، وعلانيتها وسرها إنه تبارك وتعالى غفور رحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمد الشاكرين ، وأثنني عليه ثناء الذاكرين ، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد أيها المؤمنون:
اتقوا الله تعالى وراقبوه في السر والعلانية والغيب والشهادة مراقبة عبدٍ يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه . واعلموا رعاكم الله أن تقوى الله جل وعلا هي خير زاد يبلغ إلى رضوان الله ، قال الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة:197] ، وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نور من الله خيفة عذاب الله ، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق:2-3] ، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4] ، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ [الطلاق:5] .جعلنا الله أجمعين من عباده المتقين وأوليائه المقربين .
واعلوا رعاكم الله أن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة .
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما﴾ [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا )) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد . وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين ، الأئمة المهديين ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين .
اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصرًا ومُعينا وحافظًا ومؤيدا ، اللهم احفظ جنودنا في حدود البلاد وأيِّدهم بتأييدك يا رب العالمين . اللهم آمنَّا والمسلمين في أوطاننا ، اللهم آمن في أوطاننا ، اللهم آمنا يا رب العالمين في أوطاننا ، اللهم وأصلح لنا شأننا كله ، اللهم وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . اللهم يا ربنا عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم ، اللهم من أرادنا في أمننا أو إيماننا أو أوطاننا بسوء فأشغله في نفسه واجعل تدبيره تدميره يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام . اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك .
اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125