قَصْدُ السَّبِيل
خطبة جمعة بتاريخ / 10-5-1437 هـ
الحمد لله الهادي الكريم ، يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له العليُّ العظيم ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله بالمؤمنين رؤوف رحيم ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى جميع من سلك سبيله القويم .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى وراقبوه جلَّ في علاه مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه ؛ وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله .
أيها المؤمنون : إنَّ أعظم النِّعم وأجلَّ المنن وأكبرها على الإطلاق نعمةُ الهداية إلى قصد السبيل وسواء الصراط ؛ ولهذا كان أعظم الدعاء وأجلُّه دعاء الفاتحة ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾.
والصراط المستقيم -أيها العباد- طريقٌ واسعٌ مستقيمٌ لا اعوجاج فيه يُفضي بسالكه والثابت عليه إلى رضوان الله وجناته جل في علاه . سأل رجل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما الصراط المستقيم ؟ قال : «طريقٌ تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جوادّ ، وعن يساره جوادّ ، وثَم رجالٌ يدعون من مر بهم ؛ فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة».
أيها المؤمنون عباد الله : وقد ضرب نبينا عليه الصلاة والسلام في سنته الثابتة مثلين عظيمين جليلٌ شأنهما جديرٌ بكل مسلم أن يعيهما وأن يتدبرهما ؛ ليعرف الصراط معرفةً قويمة وليكون في أمَنة في سيره وعافيةٍ في طريقه وسلامةٍ من الجوادِّ المهلكة والسبُل الجائرة ، كما قال الله جل في علاه : ﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النحل:9] .
أما المثل الأول أيها العباد : فقد روى الإمام أحمد في مسنده وغيره عن النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَتَعَرَّجُوا ، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ ، وَالصِّرَاطُ: الْإِسْلَامُ ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ : مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ)) .
فهذا مثل يا معاشر المؤمنين عظيمٌ للغاية جديرٌ بكل مسلم أن يُعنى به . قال الإمام ابن القيم رحمه الله : «فليتأمل العارف هذا المثل وليتدبره حق تدبره وليزن نفسه به وينظر أين هو منه؟ » .
نعم عباد الله ؛ جديرٌ بنا أن نتدبر هذا المثل العظيم وأن نتأمل في هداياته ودلالاته وأن ننظر في حالنا أين نحن من هذا الصراط ؟ أنحن عليه سائرون ؟ أم عنه حائدون جائرون؟ ؛ فإن من الناس -عباد الله- خلقٌ كثير أخذَت بهم تلك الأبواب مآخذ شتى وطرائق قِددا جارت بهم عن صراط الله تبارك وتعالى المستقيم ، لاسيما وأن كل بابٍ من تلك الأبواب المفتحة عليه شيطان يدعو إليه ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «إن هذا الصراط محتضَر تحضره الشياطين تقول هلُمَّ هذا الطريق ؛ فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن » .
أيها المؤمن : اتق الله ربك والزم صراطه المستقيم ، وإياك وبنيَّات الطريق والاعوجاج ، إياك والانحراف عن صراطه؛ فإن الانحراف عن صراط الله المستقيم هلكة . ويوم القيامة يوم يقف العباد بين يدي الله عز وجل يندم الجائرون عن الصراط ندامةً عظمى ، ويعرفون في ذلك اليوم معرفة جيدة قدر هذا الصراط وعظم التوفيق لمن كان من أهله، قال الله تبارك وتعالى في آخر آية من سورة طه ﴿ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ ﴾أي يوم القيامة ﴿ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) ﴾ .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمد الشاكرين وأثني عليه ثناء الذاكرين ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه في السر والعلانية والغيب والشهادة .
أيها المؤمنون : وأما المثل الثاني في بيان الصراط ؛ فما رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : «خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ثُمَّ قَالَ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ إِنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام:153] »
فلنتق الله عباد الله ، ولنجاهد أنفسنا على لزوم صراطه المستقيم ، ولنستعِذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولنسأل الله الثبات على الصراط والهداية إلى الصراط ، ولنسأله جل وعلا دومًا وأبدا بتلك الدعوة العظيمة في سورة الفاتحة ؛ فإن الله عز وجل لم يوجِب على عباده دعوة مثل تلك الدعوة العظيمة ، وليستشعر المسلم في كل مرة يقرأ فيها الفاتحة أنه يدعو الله بهذا الدعاء العظيم الذي هو أعظم الدعاء وأجلُّه .
واعلموا رعاكم الله أن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة .
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد . اللهم ارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينا ، وحافظًا ومؤيدا ، اللهم وانصر جنودنا في حدود البلاد نصرًا مؤزرا وأيِّدهم بتأييدك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك اللهم من شرورهم ، اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتَّبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال ، اللهم وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، إياك نعبد وإياك نستعين ، اهدنا الصراط المستقيم ؛ صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125
|