قبل الفراق لكل مجرم عاق
الحمد لله اللطيف الرؤوف المنان ، الغني القوي السلطان ، الحليم الكريم الرحيم الرحمن ، القائل في كتابه : } هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ { ؟
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ { .
فَالحَمدُ لله الذي هُو دَائمٌ
أَبدًا وَليسَ لِمَا سِوَاهُ دَوَامُ
وَالحَمدُ لله الذِي لِجَلالِهِ
وَلِحِلْمِهِ تَتَصَاغَرُ الأَحلامُ
والحَمدُ لله الذِي هوَ لَمْ يَزَلْ
لا تَسْتَقْلُّ بِعِلْمِهِ الأَوْهَامُ
سُبحانَهُ مَلِكٌ تَعَالَى جَدُّهُ
وَلِوَجْهِهِ الإِجْلالُ وَالإكرامُ
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، أرسله للأنس والجان ، وجعل الفوز بطاعته ، وفي مخالفته ومعصيته ؛ الذل والهوان والخسران ، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد ، فيا عباد الله :
تقوى الله U - وهي امتثال أمره واجتناب نهيه - وصيته سبحانه لعباده ، فهو القائل في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المسلمون :
ظاهرة عقوق الوالدين ، ظاهرة خطيرة ، انتشرت وبُلِيَ بها كثير من شباب المسلمين ، فلم ينجو منها ، إلا من رحم الله U ، بل - أيها الأخوة - نسبة الذين يقعون ضحية للعقوق، نسبة مخيفة، يجب أن لا تكون في مجتمع رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد r نبيا رسولا .
قد يقول قائل - أيها الأخوة - أين هذه النسب ؟ وقد يحاول أن يقنع نفسه ، من باب محبته لأبنائه، ورؤيته لمن حوله وقد أسكتتهم عن الشكوى محبة أبنائهم، بأن لا يوجد عقوق ! وهذا لا شك - أيها الأخوة - منطق لاصحة له أبدا. أو - أيها الأخوة - قد ينكر بعضنا العقوق لجهله، بماهو العقوق، لأن أبنائه يفعلون به ما كان يفعله بآبائه، أو لأنه يجني ثمرة تربية هو في الأصل قد تربى عليها .
هذه حقيقة - أيها الأخوة - فليس شرطا أن يضربك ابنك، أو يرمي بك في السجن، أو يلقي بك في دار العجزة، أو يلوي يدك ، ليكون عاقا لك. لا ، العقوق يكون في أدنى من ذلك . إذا خرج عن طاعتك فهو عاق ، إذا أهمل حقك ولم يقم بواجبك أو فعل مالا يرضيك، فهو عاق، إذا جحد فضلك أو أنكر جميلك فهو عاق، بل إذا أمرته بأمر أو نهيته عن شيء ، فتأفف بينه وبين نفسه، فهو عاق، ومرتكب لكبيرة نهى الله U عنها ، وحذر منها، كما قال تبارك وتعالى : } فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا { .
فظاهرة العقوق - أيها الأخوة - ظاهرة موجودة ، بل وبينة وواضحة ، لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر ، يكفي - أيها الأخوة - في إثبات وجودها : ذكر الله U لها في كتابه ، واهتمام النبي r بشأنها في سنته ، وكما قال تعالى : } مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ { وكما قال r في الحديث الصحيح : ((تَرَكَتْكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ )) .
أيها الأخوة :
ولا شك أن وجود مثل هذه الظاهرة الخطيرة ، والرذيلة الكبيرة ، فيه دليل على بعد كثير من الناس عن تعاليم دينهم ، ووقوعهم في أخطر ما يغضب ربهم ، وتعرضهم لأعظم ما يوجب عقوبتهم في الدنيا والآخرة ، لأن عقوق الوالدين - أيها الأخوة - قرين الشرك ، وأثر الشرك وتأثيره ، ومستقبل صاحبه، وما ينتظره من العقاب، لا يخفى على مسلم عاقل، يقول U : } وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ { تخيّل أخي، حال من يسقط من السماء ، ماذا يحدث له ، أظنكم سمعتم بالطائرة الأخيرة الماليزية، التي سقطت وعلى متنها أكثر من مئتين وثلاثين راكبا، لم يوجد منها قطعة واحدة حتى الآن ! فحال من مات على الشرك - والعياذ بالله - وما ينتظره وما يتعرض له ، هو كما جاء في هذه الآية : } فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ { . هذه حال من يشرك بالله ، وعقوق الوالدين - أيها الأخوة - قرين الشرك بالله ، يقول تبارك وتعالى : } وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً { ويقول U : } وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا {، وفي الحديث الصحيح قال النبي r : (( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبائِرِ، أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبائِرِ، أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبائِرِ ؟ )) ، قَالُوا : بَلى يا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ r : (( الإِشْراكُ بِاللهِ وَعُقوقُ الْوالِدَيْنِ )) . فعقوق الوالدين ، يأتي في المرتبة الثانية ، بعد الشرك بالله ، لما له من تأثير على نفس من بذل الغالي والنفيس ، وأفنى شبابه ، وبذل جهده ووقته ، بأمل أن يجد ابنا صالحا يبحث ويحرص على ما يتسبب في سعادته ، ولكنه لم يجد مقابل ذلك إلا العقوق ، والتمرد على أوامره ، والحرص على ما يكدر خاطره ، أحدهم - أيها الأخوة - لما سأل عن أمه ، وأمر بطاعتها وبرها وعدم عقوقها ، لأنه أمه ، قال : هذه أم ، بلى بها الشيطان ، والآخر بناء على خلاف له مع أبيه يصفه : بالمجرم . وآخر يشير بإصبعه في وجه أبيه ويقول أشهدوا عليه ، وآخر لما قيل له : يا فلان اتق الله هذا أبوك : قال يا أخي : هذا غثنا . فبالله عليكم - أيها الأخوة - أي شقاء وتعاسة ، وعنت ومشقة ، وبؤس وحسرة ، وهم وغم ، بل ومرض ، قد يتعرض له والد أو والدة ، بُلِيَ بابن عاق من هؤلاء ؟ لذلك - أيها الأخوة - العاق من الثلاثة الذين حرم الله U عليهم الجنة ، كما في الحديث الذي رواه احمد والنسائي والبزار والحاكم وقال عنه صحيح الاسناد ، يقول r : (( ثَلَاثَةٌ حَرَّمَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَلَيْهِمْ الْجَنَّةَ : مُدْمِنُ الْخَمْرِ ، وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ الْخَبَثَ فِي أَهْلِهِ )) . وفي حديث آخر رواه الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ، يقول r : (( أَرْبَعٌ حَقَّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمْ الْجَنَّةَ وَلَا يُذِيقَهُمْ نَعِيمَهَا : مُدْمِنُ الْخَمْرِ ، وَآكِلُ الرِّبَا ، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ )) . فليحذر الأبناء ، هذه الكبيرة الخطيرة ، والجريمة النكيرة ، وليحرصوا على إسعاد آبائهم وأمهاتهم ، وليكونوا قرة عين لهم ، لا منبع شقاء وتعاسة وعناء .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
} وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا { .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
عباد الله :
قد تسوغ النفس الأمارة بالسوء ، وشياطين الجن والأنس ، لبعض الأبناء ، الوقوع في جريمة العقوق ، وقد يكون ذلك بسبب عناد أو تسلط أو جهل أو اجتهاد خاطئ ، أو بسبب فساد وضلال وانحراف من قبل آبائهم أو أمهاتهم ، ولكن هذا لا يجيز ولا يسمح أبدا ، ولا يعتبر مبررا شرعيا ، للوقوع في العقوق .
يقول U : } وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا { تصور أخي ، يصلا بك إلى درجة المجاهدة ، من أجل ماذا ؟ ليس من أجل زوجتك ، أو من أجل وظيفتك ، أو من أجل أطفالك ؛ أو من أجل سهرك خارج البيت ، أو من أجل صاحب لك غير مقتنعين بصحبتك له ، لا ، بل من أجل أن تشرك بالله . فلا تقل هذه أم بلى بها الشيطان ، ولا تقل لأبيك هذا مجرم . لا ، فقط : فلا تطعهما ، ولكن أحذر أن تتسبب بالإساءة إليهما ، وصاحبهما في الدنيا معروفا .
أيها الأخوة :
وهناك أمر لابد من توضيحه ، وهو السبب المشتهر في قضية العقوق ، والقطيعة عند كثير من العصاة ، الذين تمردوا على والديهم ، هذا الأمر هو : أن بعضهم يكون بارا بوالديه في أول عمره ، ثم يتزوج فإذا تزوج تنكر لوالديه ، بناء على رغبة زوجته المدللة ، سواء أبدتها له تصريحا أو تلميحا ، وقد وقفت أيها الأخوة على شئ من هذا ، والله - أيها الأخوة - إن أحدهم مضت عليه سنة كاملة وهو هاجر لأمه ، هجر أمه سنة كاملة ، وهجر المسلم العادي من الأمور المحرمة ، فكيف بالأم ؟ إذا كان المسلم الذي من أبعد الناس ، هجره سنة كسفك دمه ؛ فكيف بالأم ؟ فزوجتي على عيني ورأسي ، وخيركم خيركم لأهله كما قال النبي r : ولكن لا يكون على حساب الوالدة أو الوالد . إن كان لا بد من التضحية بأحدهم ، فلتكن بالزوجة ، لأن الزوجة تستطيع أن تأتي بزوجة مثلها ، أو بأفضل منها ، ولكن إذا توفت أمك وتوفى أبوك من أين لك بأم وأب تبر بهما ؟ الزوجة التي لا تعينني على بر والدي ، لاخير فيها ، والسلامة منها تعتبر مكسبا من أهم المكاسب .
أسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، وسلامة دائمة ، إنه سميع مجيب . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر، برحمتك يا أرحم الراحمين .اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ، وعجل بزوال الطغاة المجرمين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، أن تغيث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالأمطار ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا . اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، هنيئا مريئا ، سحا غدقا ، عاجلا غير آجل ، نافعا غير ضار ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120 |