محبة النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله ، الذي جعل محبة النبي r من الإيمان ، وجعل العمل بسنته سببا لدخول الجنان ، القائل في كتابه : } وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه } لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له } اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ { . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، } هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم يبعثون .
أما بعد ، فيا عباد الله :
تقوى الله U ، وصيته لعباده الأولين والآخرين ، } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ{ فلنتق الله - أحبتي في الله - } وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ { .
أيها الأخوة المسلمون :
محبة النبي r عبادة عظيمة ، جعلها الله U فرضا لازما على كل مسلم ، وإتباعه r ، الذي تقتضيه محبته ، جعله U دليلا على محبته سبحانه ، وسببا لمغفرة ذنب صاحبه ، يقول تبارك وتعالى : } قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ { .
بل - أيها الأخوة - محبة النبي r ، هي العلامة الفارقه ، والدليل الواضح ، للمؤمن الصادق عن غيره ، ففي الحديث الصحيح عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t يقول r : (( لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )) ، وفي حديث صحيح آخر ، أن عمر بن الخطاب t قال : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ r : (( لاَ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ )) فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : فَإِنَّهُ الآنَ ، وَاللَّهِ ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ r : (( الآنَ يَا عُمَرُ )) .
فمحبة النبي r - أيها الأخوة - يجب أن تكون الأولى في قلب المسلم ، بعد محبة الله U ، لا يقدم عليها محبة والد ولا ولد ، ولا محبة أخ ولا أخت ، ولا محبة مال ولا زوجه ، بل ولا محبة نفس ، ومن قدم محبة شيئ من ذلك ، على محبة النبي r ، فإنه على خطر عظيم ، وأي خطر أعظم من نفي الإيمان عنه ، وفسقه وضلاله ، يقول U : } قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ { يقول القاضي عياض في بيانه لهذه الآية : فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته ، ووجوب فرضها ، وعظم خطرها ، واستحقاقه لها r ، إذ قرّع الله من كان ماله وأهله وولده أحـب إليه من الله ورسـوله وتوعدهم بقوله تعالى : } فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ { ، ثم فسقهم بتمام الآية ، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله .
عباد الله :
لقد ضرب لنا أصحاب النبي r ورضي الله عنهم ، أروع الأمثلة في محبته ، وترجموا ذلك واقعا ، في أفعالهم وأقوالهم ، وقدموا من أجل ذلك الغالي والنفيس ، فهانت عند محبته أموالهم وأبناؤهم ، بل وحتى أنفسهم ، وَقَد كانت محبَّتُهُم له r ظاهِرَةً لِلعيانِ ، أَدهَشَتِ العُقَلاءِ مِن أَعدَائِهِ ، فَشَهِدُوا بها وَأَبدَوُا استِغرَابَهُم منها ، فها هو عُروَةُ بنُ مَسعودٍ الثَّقَفِيُّ ، وَقَد أَوفَدَهُ المُشرِكُونَ لِلتَّفَاوُضِ مَعَ رَسُول اللهِ في صُلحِ الحُدَيبِيَةِ ، يَقُولُ وقد عاد إلى أصحابِهِ : أَيْ قَومُ ، واللهِ لَقَد وَفَدْتُ على المُلُوكِ ، وَوَفَدْتُ على قَيصَرَ وَكِسرَى وَالنَّجَاشِيِّ ، واللهِ إِنْ رَأيتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصحَابُ محمَّدٍ محمَّدًا ، واللهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَت في كَفِّ رَجُلٍ مِنهُم ، فَدَلَكَ بها وَجهَهُ وَجِلدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُم ابتَدَرُوا أَمرَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كادُوا يَقتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصوَاتَهُم عِندَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيهِ النَّظَرَ تَعظِيمًا لَهُ .
وقد صدق عروة ، في نقل مقدار محبة أصحاب النبي r له ، فهذا عمرو بن العاص t يقول : ما كان أحدٌ أحب إلي من رسول الله r ، وعلي أبن أبي طالب t لما سأل : كيف كان حبهم لرسول الله r ، قال : كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ، ومن الماء البارد على الظمأ . هكذا كانوا -رضي الله عنهم - يحبون نبيهم r . في حديث مرفوع - أيها الأخوة - : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r عَدَلَ صُفُوفَ أَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَفِي يَدِهِ قَدَحٌ يَعْدِلُ بِهِ الْقَوْمَ ، فَمَرَّ بِسَوَادِ بْنِ غَزِيَّةَ ، وَهُوَ مُسْتَنْتِلٌ مِنَ الصَّفِّ - أي متقدم - فَطَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَطْنِهِ بِالْقَدَحِ ، ثُمَّ قال : (( اسْتَوِ يَا سَوَادُ بْنَ غَزِيَّةَ )) ، فَقال : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوْجَعْتَنِي ، وَقَدْ بَعَثَكَ اللَّهُ بِالْحَقِّ فَأَقِدْنِي ، قال : فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ بَطْنِهِ ، وَقال : (( اسْتَقِدْ )) ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ بَطْنَهُ ، فَقال r : (( مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ ؟ )) فَقال : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حَضَرَ مَا تَرَى ، فَلَمْ آمَنِ الْمَوْتَ ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r بِخَيْرٍ وَقال لَهُ خَيْرًا . هكذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - يحبون نبيهم r ، ويبرهنون حبهم له واقعا ، ليس مجرد ادعاء وزعم ، كما يفعل بعض الناس ، الذين يدعون حبه ولكنهم يخالفون سنته ، يزعمون حبهم له ، ولكنهم يخالفون أمره ويرتكبون نهيه ، بل يضحون بما يحب r ، عند أدنى شبهة أو شهوة :
بأبي وأمي أنتَ يا خير الورى
وصلاةُ ربي والسلامُ مُعطّرا
يا خاتمَ الرسلِ الكرامِ مُحمدٌ
بالوحيِ والقرآنِ كنتَ مُطهّرا
لكَ يا رسولَ اللهِ صدقُ محبةٍ
وبفيضها شَهِد اللسانُ وعَبّرا
لكَ يا رسولَ اللهِ صدقُ محبةٍ
فاقتْ محبةَ كُلّ مَن عاشَ على الثَرَى
لكَ يا رسولَ اللهِ صدقُ محبةٍ
لا تنتهي أبداً ولن تتغيرا
بل -أيها الأخوة -حتى النساء ، كانت محبة رسول الله r ، أولى من محبة كل شيئ في حياتهن ، ففي السِّيرةِ لابنِ هِشامٍ أنه r مَرَّ بِامرأةٍ مِن بَني دِينَارٍ وقد أُصِيبَ زَوجُها وَأَخُوها وَأَبُوها مَعَهُ بِأُحُدٍ ، فَلَمَّا نُعُوا لها ـ أي أخبرت بقتلهم ـ قَالَت : فَمَا فَعَلَ رَسولُ اللهِ r ؟ قَالُوا : خَيرًا يَا أُمَّ فُلانٍ ، هو بِحَمدِ اللهِ كَمَا تُحبِّينَ ، قالت : أَرُونِيهِ حتى أَنظُرَ إِلَيهِ . قال : فَأُشِيرَ لها إليه ، حتى إذا رَأَتْهُ ، قالت : كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعدَكَ جَلَلٌ .. أَيْ كُلُّ مُصِيبَةٍ دُونَكَ هَيِّنَةٌ صَغِيرَةٌ . فَرَضِيَ اللهُ عن صحابةِ رَسولِ اللهِ وأرضاهم . فلنتق الله - أحبتي في الله - ولنراجع أنفسنا في مجال محبة رسول الله r . أسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، إنه سميع مجيب ، اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
عباد الله :
إن من أحبّ شيئا آثره وآثر موافقته ، وإلا لم يكن صادقا في حبه ، فالصادق في حب النبيr من تظهر علامة ذلك عليه ، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته واتباع أقواله وأفعاله . وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في عسره ويسره ، ومنشطه ومكرهه ، وإيثار ما شرعه وحض عليه على هوى نفسه ، وموافقة شهوته
فهل أنت كذلك يا من تدّعي حبّ محمد r ، هل أنت من المُسَلِمين لأمره ، الوقافين عند شرعه ، المتبعين لسنته ، الملتزمين لطريقه ونهجه ، اسأل نفسك أين أنت من سنة رسول الله r ، كيف حبك لرسول الله r ، هل هناك دليل وبرهان على صدق حبك لرسول الله ، أم أن الأمر ادعاء لا دليل عليه .
أيها الأخوة :
ونحن نتحدث عن محبة النبي r ، يجدر بنا أن نحذر من الغلو في محبته ، وإنزاله منزلة أعلى من منزلته ، ووضعه في مكانة لا تليق إلا بخالقه ، ففي الحديث الصحيح ، يقول r : (( لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ )) .
أسأل الله U أن يَمُنّ علي وعليك بمحبة نبيه r ، وأن يجعلني وإياك من أتباع سنته ، المهتدين بهديه ، السائرين على نهجه ، الموعودين ورود حوضه ، إنه سميع مجيب .
اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سَيِّدِنا مُحمَّدٍ في الأوَّلين وصلِّ وسلِّم وبارك عَليهِ في الآخِرين ، وصلِّ وسلِّم وبارك عليهِ في كلٍ وقتٍ وكلٍ حين ، وفي المَلأِ الأَعلى إلى يومِ الدِّين ، نَسأَلُكَ يا رَحمنُ أَنْ تَرْزُقَنا شَفَاعَتَهُ ، وَأَورِدْنا حَوْضَهُ ، وَاسْقِنا مِن يَدَيْهِ الشَّريفَتينِ ، شَرْبَةً هَنيئَةً مَريئَةً ، لا نَظْمَأُ بَعدَها أَبَداً ، اللَّهم كما آمَنَّا بِهِ وَلم نَرَه ، فَلا تُفَرِّق بَيْنَنا وَبَينَهُ حتى تُدخِلَنا مُدخَلَه بِرحمَتِكَ يا أَرحَمَ الرَّاحِمين ، واشْفِ مَرضانا وَمَرضى المُسلِمين ، و ارْحَم مَوتانا وَمَوتى المُسلمين ، و لا تُخَيِّب رَجائَنا يا أَكرَمَ الأَكرَمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120
|