كما تكونوا يولى عليكم
الحمد لله الحكيم اللطيف الخبير ، مالك الملك ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء } لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ { . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ { . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، البشير النذير ، والسراج المنير ، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد ، فيا عباد الله :
تقوى الله U ، وصيته سبحانه لعباده ، الأولين والآخرين ، فهو القائل في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ احبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
قضية إسقاط النظام ، وتغيير الحكام ، واستخدام الوسائل الممنوعة شرعا ، كالمظاهرات والاعتصامات ، والتحريض عبر القنوات والمنتديات ، قضية خطيرة ، بل هي قضية العصر ، ومن باب قول حذيفة t في الحديث الذي ذكرنا في الجمعة الماضية : كَانَ النَّاسُ ، يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ r عَنِ الْخَيْرِ ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ ، مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِى ، لا بد ـ أيها الأخوة ـ أن نعلم علما يقينا ، أن ما أصاب المسلم من مصيبة ، ولا حل به من كارثة ، إنما هي من عمل نفسه ، والدليل على ذلك ، قول الله U : } وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ { ولا شك أن وجود الحاكم الظالم ، مصيبة كبرى ، ولكن سبب وجود هذه المصيبة ، هو ما عملتم من السيئات ، وما اقترفتم من الذنوب والخطيئات ، بل من رحمة الله بكم أنه سبحانه : } وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ { فاحمدوا الله U ، أن جعل عقابكم ، فقط بوجود هذا الحاكم الظالم ، مقابل شيء قليل من جرائمكم التي تستحقون بسببها أن لا يكون لكم وجودا على هذه الأرض ، كما قال تعالى : } وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ { ، لو يعاقبكم في هذه الدنيا ، على جميع ذنوبكم ، لاستوعبت عقوبته حتى الحيوانات غير المكلفة ، كما قال ابن سعدي في تفسيره .
فوضع الحكام ، ما هو إلا امتداد لوضع الشعوب ، وكما قيل : وكل سلطان من طينة رعيته ، روى الطبراني عن الحسن البصري ، أنه ـ رحمه الله ـ سمع رجلا ، يدعو على الحجاج ، فقال له : لا تفعل ؛ إنكم من أنفسكم أتيتم ، إنما نخاف إن عزل الحجاج أو مات ، أن يتولى عليكم القردة والخنازير ، فقد روي أن اعمالكم عمالكم ، وكما تكونوا يولى عليكم .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن هذه الحقيقة الواضحة ، والسنة الربانية الثابتة ، يغفل عنها كثير من المسلمين ، وخاصة من ابتلي بالخروج على إمامه ، وسلطت عليه مغبة إعماله ، وخالف في أفعاله وأقواله ، كتاب ربه U وسنة نبيه r . فحري به تغيير ما في نفسه ، وكما قال تبارك وتعالى : } إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ { فغير ما في نفسك ، قبل أن تسعى لتغيير غيرك ، لا يقودك جهلك وبعدك عن شرع ربك ، إلى ما لا تحمد عقباه ، الحسن البصري ـ رحمه الله ـ لما رأى تذمر الناس من حاكمهم الحجاج ، وسمع بعض دعاة الضلالة ، يحرض على الخروج عليه ، قال : إن الحجاج عقوبة من الله U لم تك ، فلا تستقبلوا عقوبة الله بالسيف ، ولكن استقبلوها بتوبة وتضرع واستكانة ، وتوبوا تكفوه .
فالأولى بالمسلم أن يراجع نفسه ، ويتدارك تقصيره ، ولله در القائل :
نسبتم الجور لعمالــكم ونمتم عن سوء أفعالكم
لا تنسبوا الجور إليهم فما عمالكم إلا بأعمــالكم
تالله لو ملـكتم ساعة لم يخطر العدل في بالكم
أيها الأخوة المؤمنون :
إن بعد المسلم عن تعاليم ربه U ، وظلمه لنفسه ، بتسليمها لدعاة الضلالة ، يفتونه حسب مناهج جماعاتهم ، وخطط أحزابهم ، وما تمليه عليهم شهواتهم ورغباتهم ، يجعله يتورط في أمور كبيرة ، وينزلق في مزالق خطيرة ، تهوي به إلى حضيض التعاسة والشقاء ، وهذا ـ وللأسف ـ ما وقع به بعض المسلمين ، الذين ليس على وجه الأرض اليوم ، فيما نعلم ، أسوأ حالا منهم ، وصدق الله U : } وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ { يقول أحد السلف ـ رحمهم الله ـ لم أزل أسمع الناس يقولون : أعمالكم عمالكم ، و كما تكونوا يولى عليكم ، إلى أن ظفرت بهذا المعنى في القرآن ، وذكر هذه الآية : } وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ { .
أيها الأخوة المؤمنون :
فيجب على المسلم أن يراجع نفسه ، فما أنكر من زمانه ، فإنما أفسده عليه عمله ، جاء عبيدة السلماني ، إلى علي بن أبي طالب t ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما بال أبي بكر وعمر ، انطاع الناس لهما ، والدنيا عليهما أضيق من شبر فاتسعت عليهما ، ووليت أنت وعثمان الخلافة ، ولم ينطاعوا لكما ، وقد اتسعت فصارت عليكما أضيق من شبر ؟ فقال علي t : لأن رعية أبي بكر وعمر كانوا مثلي ومثل عثمان ، ورعيتي أنا اليوم مثلُك وشِبهُك .
فالعاقل ـ أيها الأخوة ـ يقوم نفسه قبل تقويم غيره ، والسفيه من ينشغل بعيوب الناس ويغفل عن عيبه ، وكما قال النبي r في الحديث الصحيح : (( يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ ، وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ )) .
فلنتق الله ـ احبتي في الله ـ وكما قال عبدالملك بن مروان : ما أنصفتمونا يا معشر الرعية ! تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ، ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرتهما .
نسأل الله أن يعين كل على كل . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
لا شك أننا في هذه البلاد ـ ولله الحمد ـ ننعم بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى ، ولكن من أهمها نعمة الجماعة والإمام ، كما ذكرت في الجمعة الماضية ، فحري بنا أن نشكر الله U على ذلك ، ولنكن يدا واحدة ، وصفا واحدا ، أمام كل من يسعى من قريب أو بعيد ، لتفريق كلمتنا ، وتمزيق وحدتنا ، فقد يوجد ـ أيها الأخوة ـ من أبناء جلدتنا ، ومن يتكلم بألسنتنا ، من يستحسن ما تورط به غيرنا ، فيتأثر به من يسلم عقله لغيره ، ومن ينقاد لشيطانه وهواه ، ويحكم شهوته ولذته ، ولا يدرك ما تؤول إليه الأمور ، وما تعقبه الأشياء .
أيها الأخوة :
تعجب والله ، عندما تسمع من يتكلم عن الأمانة ، ويخون الناس ، ويتهم غيره بعدم القيام بالواجبات ، وتأدية المسؤوليات ، وهو أكثر الناس تقصيرا بواجباته ، واضيعهم لمسؤولياته .
وتعجب أيضا ، عندما ترى من أنعم الله U عليه بأنواع النعم ، ودفع عنه البلايا والنقم ، ولكنه لا يقر بذلك في قرارة نفسه ، ولا يعترف لله بمنه وفضله ، إنما شعاره كثرة التشكي ، ودوام التذمر ، يقول U : } وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { .
اسأل الله U أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يرزقنا جميعا الفقه في هذا الدين ، وأن يجعلنا هداة مهتدين ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك ، وتحول عافيتك ، وفجاءة نقمتك ، وجميع سخطك . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، برحمتك يا أرحم الرحمين .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم آمنا في أوطاننا ، واستعمل علينا خيارنا ، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك ، واجعل عمله في رضاك ، ومتعه بالصحة والعافية ، وارزقه البطانة الصالحة ، التي تدله على الخير وتعينه عليه ، واصرف عنه بطانة السوء ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
.} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-120.html |