انْشِرَاحُ الصَّدْر
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليله ، ومبلِّغ الناس شرعه ، ما ترك خيراً إلا دلَّ الأمة عليه ولا شراً إلا حذَّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أنَّ ربه يسمعُه ويراه ، وتقوى الله جل وعلا خير زادٍ ليوم المعاد ، وهي وصية الله جل وعلا للأولين والآخرين من خلقه ، قال الله سبحانه : ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء:131] .
عباد الله ، معاشر المؤمنين : «انْشِرَاحُ الصَّدْر» مطلبٌ عظيم ومقصدٌ جليل ، إذا منَّ الله سبحانه وتعالى على عبده به وشرح له صدره ويسَّر له أمره تحققت للعبد مصالحه الدينية والدنيوية ، وأما إذا ضاق الصدر فإن أغلب مصالح العبد تتعطل ؛ فلا قدرة له على عمل ولا نشاط له على بابٍ من أبواب البر ، بل لا يزال متنقلاً من همٍّ إلى آخر ومن غمٍّ إلى غم ، وأما من شرح الله سبحانه وتعالى له صدره فإنَّ ذلك معونةٌ له على تحقيق غاياته ونيل مقاصده وأهدافه ؛ فلا تلين العبادات ولا تتيسر الطاعات إلا بانشراح الصدر ، ولا يتهيأ للإنسان تربيةً لولد ورعايةً لنشء إلا بانشراح الصدر ، ولا يتهيأ للعبد القيام بعموم مصالحه الدينية والدنيوية إلا بانشراح الصدر .
نعم عباد الله ؛ ما أعظم شأن انشراح هذا الصدر واتساعه بحيث يكون صاحبه قادراً على مصالحه وشؤونه ، وكلما عظمت المهمَّة وكبُر الأمر احتاج إلى مزيد انشراح صدرٍ ليتسنى له نيل مقصده وتحصيل غايته ؛ ولهذا عباد الله لما أمر الله نبيه موسى عليه السلام بالذهاب إلى الطاغية فرعون لدعوته وتحذيره من مغبة طغيانه توجَّه موسى عليه السلام إلى الله ﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ [طه:25-26] ، ويقول الله سبحانه ممتناً على عبده ورسوله ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم : ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح:1] ؛ أي أنَّ هذه منة إلهية وعطية ربانية منَّ الله سبحانه وتعالى عليك بها .
عباد الله : وهذا المطلب العظيم - أعني «انْشِرَاحُ الصَّدْر» - يحتاج من العبد بتوفيقٍ من الله ومنّ وتسديدٍ وعوْن إلى أسبابٍ لابد أن يعمل العبد على بذلها وتحقيقها لينال هذه الخصلة الكريمة .
r ومن أعظم أسباب انشراح الصدر معاشر المؤمنين : توحيد الله وإخلاص الدين له ، والبراءة من الشرك والبُعد عنه ؛ دقيقه وجليله ، كبيره وصغيره ؛ فإن التوحيد -معاشر المؤمنين- أعظم سببٍ لانشراح الصدر ، وضده وهو الشرك بالله أعظم سببٍ لظلمة الصدر وكآبته وضيقه وعذابه.
r ومن أسباب انشراحه عباد الله : اتباع سنة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ولزوم نهجه القويم والائتساء بهديه صلى الله عليه وسلم ، كيف لا !! وهو اتباعٌ لأشرح الناس صدرا ، وأطيبهم خُلُقا ، وأجملهم سيرةً وأزكاهم سريرة ، فإن من اتَّبعه عليه الصلاة والسلام نال بهذا الاتباع انشراحاً في الصدر وطمأنينةً في القلب وصلاحاً في الحال .
r ومن أسباب انشراحه عباد الله : تعلُّم العلم الشرعي المستمد من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وكلما زاد العبد تحصيلاً لهذا العلم متقرباً بتحصيله إلى الله زاد انشراح صدره وصلاح حاله ، وضده وهو الجهل ظلمةٌ في القلب وكآبة في الحال.
r ومن أسباب انشراحه عباد الله : الإنابة إلى الله وحُسن الإقبال عليه جل في علاه والتلذذ بعبادته وطاعته ؛ فإن الطاعة والعبادة راحة القلوب وأُنس النفوس وقرَّة العيون وسعادة الصدور ، وفي الحديث : ((يَا بِلَالُ أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)) ، وفي الحديث الآخر : ((جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ )) ، وعموم الطاعات -عباد الله- راحةٌ وسعادةٌ وأُنسٌ وطمأنينة .
r ومن أسباب انشراحه : دوام ذكر الله جل وعلا ؛ فإنَّ ذكره سبحانه طمأنينة القلوب وراحة الصدور ، قال الله تعالى : ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد:28] .
r ومن أسباب انشراحه : الإحسان إلى عباد الله ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة:195] ؛ الإحسان إليهم سواءً بالجاه أو المال أو النفع البدني أو نحو ذلك ، فإن من كان محسناً لعباد الله جازاه الله تبارك وتعالى بشرح صدره وتيسير أمره وحُسن عاقبته ومآله ، أما البخيل الشحيح فإنه من أضيق الناس صدرا وأكثرهم همًّا وغمّا وأنكدهم معيشة .
r ومن أسباب انشراحه عباد الله : إبعادُ أدواء القلوب وأسقامها ، وهي أدواء كثيرة ؛كالحسد والغل والحقد ونحو ذلك ، فإن هذه الخصال الذميمة والأدواء المشينة إذا دخلت إلى القلوب أعطبتها ، وإذا وصلت إلى الصدور أظلمتها ، وترتب عليها ضيق صدر صاحبها وكآبة حاله وسوء عاقبته ومآله .
r ومن أسباب انشراحه عباد الله : صيانة اللسان من الكلام بالحرام ، وصيانة الأذن من سماع الحرام ، وصيانة النظر من النظر إلى الحرام ؛ فإنَّ فضول السمع والبصر والكلام مضراتٌ بصاحبها إضراراً عظيما ، وهي مجلبةٌ للهموم والغموم وتترتب عليها من العواقب الوخيمة ما لا يحمده الإنسان في دنياه وعقباه .
معاشر المؤمنين : لنقبِل على الله سبحانه راجين منَّه وتوفيقه بأن يشرح صدورنا وأن ييسر أمورنا ، وأن نتخذ من الأسباب الشرعية النافعة ما هو أعظم زادٍ لنيل هذا المقصد والفوز بسعادة الدنيا والآخرة .
نسأل الله عز وجل أن يشرح صدورنا أجمعين ، وأن ييسِّر أمورنا ، وأن يحمِّدنا العواقب، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ؛ إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى .
عباد الله : إنَّ «انْشِرَاحُ الصَّدْر» منَّة إلهية وعطية ربانية يمنُّ الله سبحانه وتعالى بها على من شاء من عباده، ﴿ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد:29] ؛ وتأمَّلوا - عباد الله- في تقرير ذلك وبيانه قول الله سبحانه: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام:125] ، ويقول الله تعالى : ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الزمر:22] .
فشرح الصدر -عباد الله- منَّةٌ وعطية لا تُنال إلا بتوفيقٍ من الله ومنّ ، ولا تُنال إلا بحسن الإقبال على الله إخلاصاً واتباعاً وطاعةً وإنابةً إلى الله وإحساناً إلى عباد الله ومجاهدةً للنفس في نيل رضاه سبحانه . فلنجتهد عباد الله بأن نكون مقبلين على الله سائرين على النهج القويم الذي يحبه منَّا ، ويتلخص ذلكم في قول نبينا عليه الصلاة والسلام : ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ)) .
واعلموا أنّ أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرُّ الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة .
وصلُّوا وسلِّموا - رعاكم الله - على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكرٍ الصدِّيق ، وعمرَ الفاروق ، وعثمانَ ذي النورين ، وأبي الحسنين علي ، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصراً ومُعينا وحافظاً ومؤيِّدا ، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم واحقن دماءهم يا رب العالمين ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم أعِنَّا ولا تُعِن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا ، واهدنا ويسِّر الهدى لنا ، وانصرنا على من بغى علينا . اللهم اجعلنا لك ذاكرين ، لك شاكرين ، إليك أواهين منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين ، اللهم تقبَّل توبتنا واغسل حوبتنا ، وثبِّت حجتنا ، واهد قلوبنا ، واسلل سخيمة صدورنا . اللهم اشرح صدورنا ويسِّر أمورنا ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها ، اللهم ألِّف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سُبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا ، واجعلنا مباركين أينما كنا يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال .
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-125.html |