باب التوبة
الحمد لله رب العالمين (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وأشهد أن محمد عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذير وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثير، أما بعد أيها الناس
تأملوا لماذا خلقتم وتأملوا إلى أين تصيرون فإن العاقل يتدبر ما هو فيه وما هو مقبل عليه فيستعد لما أمامه والدنيا دار ممر والآخرة دار مقر والدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء فاعرفوا واقعكم رحمكم الله كل يفكر في نفسه ماذا أعد للقاء الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)، أنزل الله سورة قصيرة كلكم تحفظونها حتى الأطفال والنساء كلا يحفظها وهي سورة العصر قال الله سبحانه وتعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، قال الإمام الشافعي: (لو تأمل الناس هذه السورة لكفتهم) في أن تكون منهجًا لهم يسيرون عليه وينجون به فهي كافية بمعنى أنها ترسم لك طريق الفلاح وطريق النجاة (وَالْعَصْرِ)، أقسم سبحانه وتعالى أقسم بالعصر الذي هو الوقت والزمان والليل والنهار لأن العصر هو محل العمل الليل والنهار محل العمل إما بالخير وإما بالشر فالإنسان لا يبقى بدون عمل لا بد أن يعمل إما في الخير وإما في الشر فأنظر رحمك الله مع أي الفريقين أنت (إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، كل إنسان لا يستثنى أحد لا الملك ولا الصعلوك ولا الغني ولا الفقير ولا الذكر ولا الأنثى ولا العربي ولا الأعجمي كل إنسان فهو خاسر يوم القيامة خسارة لا تعوض إلا من اتصف بأربع صفات ذكرها الله في هذه السورة الوجيزة:
الصفة الأولى (الَّذِينَ آمَنُوا)، آمنوا بالله سبحانه وتعالى إيمان صادقا لا يعتريه شك ولا يؤمن الإنسان إلا بالعلم لأن الإيمان فرع عن العلم، العلم الشرعي، (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) هذه الصفة الأولى، وأما من لم يؤمن فهو باق في خسارته كل كافر وكل مشرك وكل من لم يعمل عملا صالحا فإنه لا يخرج من هذه الخسارة (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا).
الصفة الثانية (عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، لأن العلم والعمل قرينان الإيمان والعمل قرينان لا يكفي أنه يؤمن بالله ويصدق بالله بل لا بد أن يعمل فالإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية هذا هو الإيمان (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أما من آمن فصدق ولكنه لم يعمل فهذا لا ينفعه إيمانه، لأنه لم يعمل وإن كان مؤمنا مصدقا بالله سبحانه وتعالى، لا بد من العمل (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
الصفة الثالثة: (تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)، لأنه لا يكفي أن الإنسان يكون صالحا في نفسه بل لا بد أن يسعى في إصلاح غيره وذلك بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب استطاعته ومقدرته وأول من يبدأ به أقاربه وبالأخص من في بيته فإنه مكلف بهم ولأنه راع عليهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، بماذا تقون أنفسكم وأهليكم هذه النار؟! بطاعة عز وجل وبالعمل الصالح، لا سبيل إلى النجاة من النار إلا بذلك، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)، "مروا أولادكم للصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع"، (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)، فتبدأ بمن تحت يدك من أهل بيتك من أولادك ونساءك وكل من ولاك الله عليهم فبيتك هو مملكتك الملك لا يتدخل في بيتك أنت المسؤول عنه ولك اليد فيه أن تضرب وأن تؤدب من عصى الله ورسوله أنت المسؤول عما في بيتك.
الصفة الرابعة (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، لأن الذي يعمل الصالحات الأعمال شاقة وتحتاج إلى صبر وإلا إذا لم يصبر ترك الطاعات يمل ويتركها يكسل يعجز عجزا كسلا لا عجزا بدنيا، لكن إذا صبر على طاعة الله وصبر عن ترك ما حرم الله فإنه حينئذ يكون قد أنقذ نفسه ولا ينقطع عن العمل إلى الموت (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، وهذا يحتاج إلى صبر على طاعة الله وترك ما حرم الله، وكذلك الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعوا إلى الله ويتعرض لأذى الناس ويتعرض لما يلاقيه منهم، وقد يقتلونه أو يضربونه أو يوبخونه ويهددونه ولكنه يصبر على ذلك، ماذا لقي الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى قومه وتطاولهم عليه وماذا لقي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أممهم لكنهم صبروا وتحملوا وواصلوا الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا هو الصبر وهو ثلاثة أنواع صبر على طاعة الله والنوع الثاني صبر عن محارم الله والنوع الثالث صبر على أقدار الله المؤلمة التي تجري عليك اصبر عليها ولا تجزع ولا تتسخط من قدر الله جل وعلا واعمل لنفسك ما ينقذك من العقوبات ومن النكبات تب إلى الله عز وجل فهذه السورة حصرت السعادة في هذه الصفات الأربع فهل تأملناها، هل اتخذناها منهجا لنا في حياتنا والقرآن كله وكل الأحاديث تفصيلا لهذه السورة لأنك كيف تعمل وكيف تترك إلا بما أمر الله بالقرآن والسنة وما نهى الله عنه فهذه السورة رسمت لك الطريق الصحيح وتفاصيلها في كتاب الله عز وجل، فاتقوا الله عباد الله ما دمتم على قيد الحياة وفي زمان الإمكان أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وهو القبور، ثم يبعثون منها للجزاء والحساب (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، ثم يبعثون منها إلى أين؟ إلى الجنة أو إلى النار، فاتقوا الله عباد الله تأملوا كتاب الله واعملوا به لتنجوا من عذاب الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولي جميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنهُ هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكرهُ على توفيقهِ وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابهِ وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله فتح لكم باب التوبة وباب الاستغفار فإذا حصل خلل في العمل وصدرت معاصي من الإنسان فلا يقنط من رحمة الله، لكن لا يعتمد على الرجاء فقط فيقول الله غفور رحيم الله تواب ويتمادى في المعاصي لا، يبادر في التوبة: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)، يغفرها لمن؟ للمستغفرين التائبين إلى الله والتوبة معناها ترك المعاصي والابتعاد عنها وعدم الرجوع إليها والندم على ما حصل ما هي توبة باللسان فقط بدون عمل، وبدون إصلاح، (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا)، لازم من إصلاح ما أفسدت بالمعاصي، فالله جل وعلا فتح لكم باب التوبة وفتح لكم باب المغفرة إذا تبتم إليه توبة صحيحة وسيأتي يوما يغلق هذا الباب، باب التوبة.. متى؟! عند الموت، عند الموت كل يتوب لكن لا تقبل التوبة في الحديث الصحيح "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، يعني ما لم تبلغ روحه الغرغرة ولم يبقى إلا قبضها من جسمه حينئذ لا تقبل التوبة وكل إنسان لا يدري متى يموت فعليه أن يكون تائبا دائما متهيأ للموت متى نزل به من ليل أو نهار فإنه يكون تائبا إلى الله عز وجل ولا يكون متحملا لذنوبه فأكثروا من التوبة والاستغفار وأكثروا من الطاعات والعمل الصالح وابتعدوا عن الذنوب والمعاصي لتنقذوا أنفسكم من النار.
واعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمةِ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن الصحابةِ أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مستقرا وسائر بلاد المسلمين عامةً يا ربَّ العالمين، اللَّهُمَّ احم بلادنا من كل عدو وكافر وملحد وزنديق ومن كل منافق وشرير، اللهم احم هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين من كيد الكفار وشر الأشرار وعذاب النار يا حي يا قيوم يا سميع الدعاء، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا اللهم اجعلهم هداة مهتدين اللهم اصلح شأنهم اللهم اجمع كلمتهم على الحق وأيدهم بنصرك وتوفيقك وحمايتك يا رب العالمين، اللهم أعنهم على الحق، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم إنك على كل شيء قدير، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغث بلادنا، اللهم أغث ديارنا، اللهم أغث مزارعنا وآبارنا وأشجارنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، اللهم أحيي بلدك الميت، اللهم أحي بلدك الميت، اللهم أحي بلدك الميت بالغيث المبارك يا رب العالمين (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، فذكروا الله يذكركم، واشكُروه على نعمه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
المصدر
http://alfawzan.af.org.sa/node/14451
|