الرِّفق
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد معاشر المؤمنين عباد الله : اتقوا الله ؛ فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
عباد الله : إنّ من الخلال العظيمة والخصال الكريمة التي دعا إليها دينُنا الحنيف وأمر بها الإسلام الرفق ؛ الرفق في الأمور كلِّها في تعامل المرء مع نفسه ، ومع أهله وولده ، ومع إخوانه ورفقائه ، بل ومع بهيمة الأنعام وعموم الدواب.
والرفق - عباد الله - خلةٌ كريمة وخصلةٌ عظيمة يحبها الله جل وعلا من عباده وفي الحديث : ((إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ)) . وما دخل الرِّفق - عباد الله - في شيء إلا زانه وما نُزع من شيء إلا شانه كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أُعطي الرِّفق فقد أعطي الخير كله ، ومن حُرِم الرفق حُرم الخير .
عباد الله : والرفق لين الجانب في الأقوال والأفعال ؛ بمعنى أن تكون أقوال الإنسان وأفعاله هيّنة ليّنة ليس فيها صلف وشدّة ولا فظاظةٌ وغلظة ولا إسفافٌ وفحش وعنف .
والرِّفق - عباد الله - يزيِّن الأمور ويجمِّل الحياة و يكمِّل الإيمان وتتحقق له بالعبد الخيرية وينال به مصالحه ومآربه وغاياته من أمور دينه ودنياه .
عباد الله : الرِّفق شأنه في الحياة عظيم ولا يوفَّق له إلا صاحب خُلقٍ كريم ؛ لأن الرفق عند نظر الإنسان إليه نظرةً علمية يجد جماله وحُسنه وبهاءه ، ولكن عند التطبيق والعمل لا يوفق للرفق إلا من أكرمه الله جل وعلا للأخلاق الفاضلة والآداب العالية فيستطيع في كل أحايينه وجميع معاملاته أن يزمَّ نفسه بالرفق وأن يقودها إلى حسن المعاملة ورفيقها .
عباد الله : ومن يتأمّل حياة نبينا عليه الصلاة والسلام يجد أنها حياةً كريمة حياةً عامرة بالرفق والأناة والأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة ؛ فكان عليه الصلاة والسلام قدوة يُحتذى وإماماً به يؤتسى : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾ [الأحزاب: 21]، ومن يطالع حياته الكريمة يجد عجباً في تمثله عليه الصلاة والسلام بصفة الرفق في تعاملاته في شؤونه كلِّها قال الله تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159] ، ولقد كان يأتيه الرجل وليس على وجه الأرض أبغض إليه منه فما أن يراه ويرى رفقه وتعامله إلا ويتحوّل من ساعته وليس على وجه الأرض أحبّ إليه منه ، وشواهد ذلك من سنته كثيرة ومن ذلكم :
قصة إسلام ثمامة رضي الله عنه عندما جيء به ورُبط في سارية من سواري المسجد فكان عليه الصلاة والسلام يمر عليه ويحادثه ويتكلم معه برفق إلى أن أعلن إسلامه رضي الله عنه وقال : (( يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهٌ الْأَرْضِ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ ، ووَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الْأَدْيَانِ إِلَيَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ )) فتحوّل رضي الله عنه وليس شخص أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أرض أحب إليه من أرضه عليه الصلاة والسلام .
وجاء في الحديث أن أعرابياً دخل المسجد وبال في طائفة منه فقام إليه الصحابة سراعاً ينهرونه ويزجرونه فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ((دَعُوهُ ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ )) فأثَّر هذا الرفق في الرجل فقال : ((اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا )) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا)).
وجاء في الصحيح أن نفراً من اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : " السَّامُ عَلَيْكُمْ " أي الموت ، فغضبت عائشة رضي الله عنها وحُقَّ لها أن تغضب وقالت : " وعليكم لعنة الله وغضب الله " ـ فقال عليه الصلاة والسلام : ((مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ )) ، قَالَتْ رضي الله عنها : " أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ " فقَالَ لها عليه الصلاة والسلام : ((أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ ))
فانظروا - عباد الله - إلى هذه الصور المشرقة وما أكثرها في حياته عليه الصلاة والسلام ؛ بل حياته صلى الله عليه وسلم كلّها رفقٌ وحلمٌ و أناةٌ وحسن معاملةٍ وطيب تودّد .
عباد الله : ما أحوجنا إلى أن نعيد النظر في تعاملنا مع أنفسنا ومع أهلينا وأولادنا ومن نتعامل معهم من عموم الناس من خدمٍ أو سائقين أو غيرهم لننظر في تعاملاتنا أهي مبنية على الرفق والحلم والأناة أم هي مبنية على القسوة والعنف والشدّة ؟
ولنتذكّر - عباد الله - أن رفقنا بالأمور زينٌ لحياتنا وتمامٌ لإسلامنا وكمال لإيماننا وصلاح لأحوالنا ، فالأمر كما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه : ((مَا دَخَلَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ )) .
اللّهم أصلح أحوالنا أجمعين ، واهدنا إليك ربَّنا صراطاً مستقيما . اللهم وزيَّنا بالأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة. اللّهمّ واهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنّا سيئها لا يصرف عنّا سيئها إلا أنت . أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم و لسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرّحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله عظيم الإحسان واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد عباد الله اتقوا الله تعالى .
عباد الله : إنّ من الدعوات العظيمة المأثورة عن نبينا عليه الصلاة والسلام: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَهْوَاءِ )) .
عباد الله : كم هي منكرات الأخلاق المتفشية في أوساط كثير من الناس وما أحوجهم إلى التعوذ الصادق بالله جل وعلا منها!! نعم عباد الله ؛ تفشو في أوساط الناس كثير من منكرات الأخلاق في تعاملاتهم مع الأهل والأولاد ومع غيرهم من المعامَلين بأخلاقٍ فظّة وكلماتٍ غليظة وأساليب جافية ورعونة في القول والفعل ، فما أحوجنا - عباد الله - إلى تعوّذ صادق بالله من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء ، وأن نقبِل على حياةٍ كريمة عامرة بالأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة وبالرِّفق والحلم والأناة.
عباد الله : والكيِّس من عباد الله من دان نفسه فزمَّها وقادها إلى خير الأخلاق وفاضل الآداب ، والعاجز من أتبع نفسه هواها فأوردته الموارد وأدخلته في المعاطب . واعلموا - رعاكم الله - أنّ أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة . وصلوا و سلموا رعاكم الله على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد . وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارضَ اللّهمّ عن الصّحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين وعنّا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداء الدّين ، واحم حوزة الدّين يا ربّ العالمين.
اللّهمّ آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللّهم وفّق ولي أمرنا لما تحب وترضى وأعنه على البر والتقوى وسدّده في أقواله وأعماله وارزقه البطانة الصّالحة الناصحة يا رب العالمين.
اللّهم آتِ نفوسنا تقواها ، زكِّها أنت خير من زكّاها أنت وليها ومولاها . اللّهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنّا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللّهم إنّا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء. اللّهم وأصلح لنا شأننا كلَّه. اللّهم واغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-125.html |