وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
خطبة جمعة بتاريخ / 18-7-1433 هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليله ، وأمينه على وحيه ومبلِّغُ الناس شرعه ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه جل في علاه مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه .
أيها المؤمنون عباد الله : هذه وقفة نتأمل فيها في هدايات آية كريمة من كلام ربنا جل في علاه ؛ يقول الله تعالى : ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة:2] .
أيها المؤمنون عباد الله : لننْهل من هدايات هذه الآية ودلالاتها ومعِينها العذب المبارك ، ولنتأمل في واقعنا وأعمالنا وشؤوننا وأحوالنا في ضوء ما دلت عليه وهدَت إليه .
أيها المؤمنون عباد الله : إن التعاون أمره خطير جدا ؛ فبالتعاون - عباد الله - تُنال المقاصد ويُتوصل إلى الأهداف وتتحقق المكاسب والأرباح أيًّا كانت ؛ خيراً أو شرا ، نفعاً أو ضرا، صلاحاً أو فسادا، فإنما تنال المصالح بالتعاون على تحقيقها والتضافر على نيلها وتحصيلها .
وبهذا يُعلم - أيها المؤمنون عباد الله - خطورة أمر التعاون ، وأنَّ المسلم لابد أن يزُمَّ نفسه في هذا الباب بزمام الشرع وهداياته ، وتأمل ذلك في ضوء هذه الآية الجامعة لهذا الباب حيث يقول الله تعالى : ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ ، فثَمَّ نوعان من التعاون : أمرٌ حضَّ عليه الشارع وحثَّ عليه ورغَّب في فعله لعظم خيراته وكثرة بركاته وجمال عوائده وفوائده ، ونوع آخر من التعاون ما أعظم شره وما أكبر ضره وما أسوأ عواقبه ومآلاته .
عباد الله : والمؤمن العاقل يتأمل في نفسه وأعماله من أيِّ هذين الصنفين هو ؟ أهو ممن يتعاونون على البر والتقوى ؟ أو ممن يتعاونون على الإثم والعدوان ؟ ، ويزداد الأمر خطورةً - عباد الله - في زماننا هذا الذي توفرت في أيدي الناس وسائل للاتصال كثيرة جدا ، منها وسيلةٌ يحملها أغلب الناس معهم أينما كانوا ويتواصلون من خلالها إلى من أرادوا وبأسرع وقت مما لم يكن موجوداً في وقتٍ سابق ، وهذا يفيد - عباد الله - خطورة هذا الأمر ، لأن كلمةً يبعثها إنسانٌ من خلال هذه الأجهزة فتصل إلى المئات بل الآلاف من الخلق قد تكون محركةً خيرا ، وقد تكون مهيجةً لباطل ، وكم من الأوزار والآثام والأضرار العظام ترتبت على مثل هذا الأمر الذي لربما تهاون به صاحبه تهاوناً عظيما ولم يُلقِ له بالا .
وهنا يبرز لنا - عباد الله - قول نبينا عليه الصلاة والسلام في الرجل يقول الكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفا ؛ لـِما ترتب على كلمته من أضرارٍ فادحة وعواقب وخيمة وجناياتٍ لا حدَّ لها ولا عدّ .
عباد الله : إنَّ الله عزَّ وجل أمرنا أمة الإسلام بالتعاون على البر والتقوى ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان ، وهذا يعني أيها المؤمنون عباد الله أن الواجب على كل واحد منَّا في هذا الباب - باب التعاون - عندما يريد أن يُقدِم أو يُحجِم ينظر في هذا الأمر الذي سيتعاون مع الآخرين فيه ؛ أهو من البر والتقوى فليقدِم مستعيناً بالله ، أو من الإثم والعدوان فليحجِم وليتق الله ، ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
نعم أيها المؤمنون : إن أمر التعاون خطير جدا ؛ لا يظن ظان أنَّ إقدامه على هذا التعاون مع الآخرين أمر هيِّن ؛ لا والله بل هو أمر في غاية الخطورة ، كم بالتعاون حصلت من الأضرار الجسيمة والأخطار العظام التي تناولت الأفراد والمجتمعات ، وكم أيضاً بالتعاون حصلت من خيرات عظيمة ومنافع عديدة ومصالح جمة سعِد بها الأفراد والجماعات ؛ إذاً وجَب علينا أن تكون هذه الآية وهذه الهداية نبراساً لنا في هذا الباب العظيم الخطير .
عباد الله : ويدخل تحت التعاون على البر والتقوى كل حرصٍ على نفع العباد بكلمةٍ طيبة ، وخطبةٍ نافعة ، وموعظةٍ مؤثرة ، وأمرٍ بمعروف أو نهيٍ عن المنكر ، أو دعوةٍ إلى الله عز وجل ، أو علمٍ يُنشر ، أو غير ذلكم من الوسائل والطرائق التي تنتشر بها الخيرات وتعمُّ بها البركات . ويدخل في التعاون على الإثم والعدوان أضداد ذلك ممن يعمل على نشر الفساد ، وإذاعة الشر ، وتهييج الفتن ، وإشاعة الشبهات ، وتحريك أمور الفساد في أوساط الناس ، فكل ذلكم من التعاون على الإثم والعدوان .
عباد الله : وإنَّ من الضرورة في الاهتداء بهدايات هذه الآية أن تتأمل في حقيقة البر والتقوى الذي أُمرت بالتعاون على تحقيقه وتحصيله ونيله ، وأن تتأمل في الإثم والعدوان الذي نُهيت أيها المؤمن أن تكون من المتعاونين عليه . والبر والتقوى إذا اجتمعا فإن البرَّ يجمع خصال الخير كلها فيما كان حقاً لله أو كان من حقوق العباد ، والتقوى تجنُّب كل ما نهى الله تبارك وتعالى عباده عنه ونهاهم عن فعله ، فكان حقيقة البر والتقوى إذا اجتمعا فعل الأوامر واجتناب النواهي طاعةً لله تبارك وتعالى وطلباً لرضاه ، والإثم والعدوان ؛ يتناول الإثم كل محرَّمٍ حُرِّم لذاته ، والعدوان كل محرم كان بسبب التعدي والتجاوز لحدود الشرع ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة:229] ، فمن تعدى حدود الله وتجاوزها إلى حيث نهاه الله عز وجل فعمله هذا عدوان ، ومن ارتكب الأمور التي نهى الله تبارك وتعالى عنها ففعله إثمٌ ، والواجب على العبد أن يتجنب الإثم والعدوان وأن يحذر أيضاً أن يكون من المتعاونين على الإثم والعدوان .
أيها المؤمنون عباد الله : وثمـَّـة في هذا المقام أمر خطير يجب التنبه له ألا وهو : أن من استروَحت نفسه إثماً ومالت إليه وكان من أهله فإن نفسه تأبى أن يكون وحده في ذلك الإثم ؛ ولهذا فإن الآثم حريصٌ على إشراك الآخرين في إثمه وإدخالهم في جرمه ومعصيته ، ولهذا قال عثمان ابن عفان رضي الله عنه : " ودَّت الزانية لو زنى النساء جميعا" ويقال مثل هذا في جميع الآثام وصنوف وأنواع الحرام .
عباد الله : لنتقي الله عز وجل ولْنَخَفْ من عقابه وعذابه ، ولنراقب أعمالنا وشئوننا وأحوالنا وهل نحن في ذلك من المتعاونين على البر والتقوى ؟ أم نحن بخلاف ذلك ؟ والكيِّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
نسأل الله عز وجل أن يعيننا أجمعين على التعاون على البر والتقوى ، وأن يعيذنا أجمعين من التعاون على الإثم والعدوان ؛ إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء ، وهو أهل الرجاء ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً كثيراً ، أحمده تبارك وتعالى بمحامده التي هو لها أهل ، وأثني عليه الخير كله لا أحصي ثناءً عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتّقوا الله تعالى ، واعلموا رعاكم الله أن تقوى الله جل وعلا عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله .
أيها المؤمنون عباد الله : لنعلم أجمعين أن هذه الحياة ميدان امتحان ودار اختبار وكلٌّ سيلقى ربه بما قدَّم في هذه الحياة ؛ فهنيئاً ثم هنيئاً لمن ملأ حياته خيراً وبراً وتقوىً لله عز وجل في نفسه ، وعملاً على تحقيق ذلك ونشره بين المسلمين . والويل ثم الويل لمن كان بخلاف ذلك ؛ فكان بنفسه صاحب إثم وعدوان ، وعاملاً في مجتمعه على نشر الإثم والعدوان ، والله جل وعلا تجتمع الخلائق عنده تبارك وتعالى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة:7-8] .
وصلُّوا وسلِّموا رعاكم الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم انصرهم في أرض الشام وفي كل مكان ، اللهم كن لهم ناصراً ومعِينا وحافظاً ومؤيِّدا . اللهم كن لنا ولهم ولا تكن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا ، واهدنا ويسِّر الهدى لنا ، وانصرنا على من بغى علينا . اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين ، إليك أواهين منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين . اللهم تقبل توبتنا ، واغسل حوبتنا ، وثبِّت حجتنا ، واهد قلوبنا ، وسدِّد ألسنتنا ، واسلل سخيمة صدورنا .
اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك ، واجعل عمله في رضاك ، وأعِنه على طاعتك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام . اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم واصرف عنهم يا ربنا شرارهم .
اللهم وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر . ربنا إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله : اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
|