القرآن تدبره والعمل به
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا)، (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنْ محمداً عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
أيُّها النَّاس، اتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمته العظيمة التي أعظمها بعثت الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا القرآن العظيم، قال الله سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، فالله سبحانه وتعالى اختار هذه الأمة، اختار منها هذا الرسول، وأنزل عليها هذا القرآن، لتكون حاملةً لشرعه والدعوة إليه لعلمه سبحانه وتعالى بأهلية هذه الأمة قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، كانت حالة العرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم حالةً مزرية، كانوا لا يقرؤون ولا يكتبون ولذلك سماهم الله بالأمَّيين، لأن الأمَّي هو الذي لا يقرأ، وليس لهم كتاب من عند الله عز وجل ما أنزل عليهم من كتاب كما أنزل على اليهود والنصارى وأصحاب الديانات السماوية بل كان العرب أتباعاً لغيرهم، ولا يعتبر لهم قيمة، فالله سبحانه وتعالى بعث فيهم رسوله وأنزل عليهم كتابه فصاروا علماء فقهاء حلماء سادوا العالم بأجمعه، فصار العالم تبعاً لهم ويتعلمون منهم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) وهو القرآن (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من الشرك والكفر (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الكتاب هو القرآن والحكمة هي الفقه في دين الله عز وجل (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ) أي: قبل بعثة هذا الرسول (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، كانوا أحط الأمم لا يقام لهم وزن، وليس لهم قيمة بين الناس، فلما بعث الله هذا الرسول فيهم وأنزل عليهم هذا الكتاب وفقهوه وعملوا به، صاروا أساتذة الدنيا علماً وعملاً وجهاداً ودعوةً إلى الله سبحانه وتعالى، فأنعم الله بذلك عليهم نعمة عظيمة يجب عليهم أن يشكروها وأن يقوموا بهذا القرآن كما قام به أسلافهم الذين سادوا العالم، يقوم به متأخر وهم كما قام به أسلافهم هذا الواجب على هذه الأمة المحمَّدية، أن لا تتخلى عن مهمتها فإن تخلت عن مهمتها عادة إلى حالتها في الجاهلية وصاروا أتباعاً لأعدائهم وأتباعاً للأمم السابقة أو الأمم المجاورة كما هو الواقع اليوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلا عزَّ لهذه الأمة ولا دولة لهذه الأمة إلا بالقيام بهذا القرآن العظيم تعلماً وتعليماً وتفقهاً وتدبراً وعملاً به؛ ولكن الواقع اليوم في كثير من المسلمين هو العكس، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلما تركوا هذه النعمة تكاسلوا عنها هانوا عند الله وهانوا عند الناس، وذهبت عزتهم ومكانتهم ولا تعود إليهم إلا بالعود إلى هذا القرآن الكريم والعمل به والجهاد بهذا القرآن قال الله جل وعلا: (فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) أي: هذا القرآن (جِهَاداً كَبِيراً)؛ ولكن كما ذكر الله سبحانه وتعالى مما يكون من حالة هذه الأمة مع القرآن قال جلَّ وعلا: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) أي: تركوه، الهجر هو الترك فتركوا القرآن الذي به عزهم وقوتهم وشرفهم كما قال جلَّ وعلا: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي: شرفكم وذكركم في الناس (فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)، وقال جلَّ وعلا: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) سوف تسألون عن هذا القرآن الذي أهملتم العمل به، وسوف تسألون يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) والهجر هو الترك، وهو يتنوع فمنه الهجر تعلم القرآن تعليم القرآن، ومنه هجر التلاوة يتعلمونه ويحفظونه؛ ولكن لا يتلونه ويرددونه في صلواتهم وفي عبادتهم وفي خلواتهم وفي مساجدهم وفي حالاتهم لا يتلون القرآن ولا يستمعون إليه، وإنما يستمعون إلى اللهو واللعب والأغاني والضحك والتمثيليات والسُخريات وما أشبه ذلك، هل يليق بالمسلم أن يكون كذلك؟ فهم هجروا تلاوة القرآن، وكذلك من هجر القرآن عدم التفقه في معانيه وتدبره: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)، (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) فلابد من التدبر لهذا القرآن، القرآن لا يردد على اللسان يتغنى به ويرتل ويزين به الصوت فقط، وإنما يتدبر ويتفهم معانيه، ثم أيضاً لا يكفي هذا لابد من العمل به، أمَّا من يقيم حروف القرآن ويتقن التلاوة ولكن لا يعمل به فهذا ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنهم يقيمون القرآن إقامة السهم ولكن لا يتجاوزون حناجرهم" إنما يشغلون به ألسنتهم فقط تلاوةً واحترافاً ومباهاة، وأما العمل به فقليلٌ من يعمل به، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكذلك من هجر القرآن هجر الحكم به في المحاكم، لأن الله أنزله حكماً بيننا فيجب أن يكون الحكم بهذا القرآن عند المسلمين، لا يستوردون القوانين الطاغوتية ويحكمون بها: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)، عندنا القرآن هو الحكم بيننا فيما تنازعنا فيه لا في الخصومات فقط، بل وفي المذاهب والأقوال والاجتهادات والمقالات لابد أن نحكم القرآن ونرجع إليه ونتبع القرآن في كل ما اختلفنا فيه لا في الخصومات فقط لا يكفي هذا، بل لابد أن نحكمه في العقائد، لابد أن نحكمه في السلوك والأخلاق، لابد أن نحكمه في التعامل فيما بيننا، لابد أن يكون القرآن هو الحكم بيننا في كل شيء من أمورنا ولا نحكمه في ناحية دون أخرى، لأن هذا من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، فالذي حكم القرآن في جانب ويتركه في جانب آخر أو في جوانب هذا من الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، لابد أن يكون القرآن حاكماً في كل شؤوننا وأمورنا، فلابد أن يحكم القرآن عند المسلمين في كل ما اختلفوا فيه، وأن يرجع إليه، فمن كان الدليل معه يؤخذ به ومن كان مخالفاً للدليل يرد قوله ولا عبرة به، هذا هو واجبنا نحو القرآن، وكذلك يحكم القرآن في الاستدلال، فلا نستدل بعلم الكلام وعلم المنطق على أمور العقيدة ونترك القرآن والسنة كما عليه علماء الكلام والمناطقة في عقائدهم المبنية على الجدل ولا يرجعون إلى القرآن في عقائدهم فهذا كله من هجر القرآن العظيم، فعلينا أن نرجع إلى الله، وأن نتمسك بهذا الكتاب في كل شؤوننا، في كل حياتنا، في كل تصرفاتنا يكن هذا القرآن حكماً بيننا في كل ما اختلفنا فيه من عقائدنا، ومن خصوماتنا، ومن مذاهبنا لابد أن نحكم هذا القرآن لأن الله أنزله للحكم به فيما اختلفنا فيه: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيان والذكرِ الحكيم، أقولٌ قولي هذا واستغفرُ الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكروه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، إن تعليم القرآن اليوم ولله الحمد قد انتشر في جمعيات القرآن، وفي المدارس مدارس تحفيظ القرآن، انتشر التحفيظ تعليم القرآن وهذا عمل جليل ويُبشر بخير؛ ولكن لا يكفي أن نقتصر على تعلم القرآن وتعليمه، بل لابد وكما سبق لابد من خطوات أخرى مع القرآن، أعظمها إتباع القرآن والعمل به وإلا فمن حفظ القرآن وأتقنه وجود تلاوته ولكنه لا يعمل به، فإنه يكون حجة عليه ويوم القيامة، أمَّا من تمسك به وسار على نهجه وعمل به، فإنه يكون حجة له عند الله سبحانه وتعالى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ" لابد من أحد الأمرين إن عملت به صار حجة لك، وإن لم تعمل به صار حجة عليك عند الله سبحانه وتعالى، والله جلَّ وعلا قال لرسوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) من بلغه القرآن قامت عليه الحجة وتمت عليه النعمة وهو مسئول عن ذلك يوم القيامة.
فاتقوا الله، عباد الله، واعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمةِ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن الصحابةِ أجمعين، وعن التابِعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مستقراً وسائر بلاد المسلمين عامةً يا ربَّ العالمين، اللَّهُمَّ من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، وردد كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره إنَّك على كل شيء قدير، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا، وولي علينا خيارنا، وكفنا شر شرارنا، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مظلين، اللَّهُمَّ أصلح بطانتهم وأبعد عنهم بطانة السوء والمفسدين، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمور المسلمين في كل مكان يا رب العالمين، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، فذكروا الله يذكركم، واشكُروه نعمه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
|