الوفاء بالعقود
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، أمر المؤمنين بالوفاء بالعقود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد الوافين بأجزل الوعود، وتوعد الغادرين بالعذاب الشديد، وأشهد أنْ محمداً عبدُه ورسوله، خير البرية وخلاصة العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين وفوا بما عاهد الله عليه فنالوا جزيل الثواب، وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
أيُّها النَّاس، اتقوا الله تعالى، قال الله جلَّ وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هذا نداء من الله جلَّ وعلا للمؤمنين، وأمر لهم بالوفاء بالعقود لأن أهل الإيمان هم أهل الامتثال، وإيمانهم يقتضي أن يوفوا بعهودهم وعقودهم وأن لا يخونوا ويغدروا، فلذلك ناداهم الله سبحانه بهذا النداء تكريماً لهم وتشريفاً لهم، والعقود جمع عقد وهو ما يبرمهُ العباد فيما بينهم من المواثيق والمعاملات، وقبل ذلك ما بين العباد وبين ربهم سبحانه وتعالى فإن الله أخذ عليهم العهد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا فقال سبحانه: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ*وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)، فأول العهود والعقود ما كان بين العباد وبين ربهم سبحانه وتعالى بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا فـــ(مَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)، وكذلك العهد الذي بين ولي أمر المسلمين وبين الرعية يجب على الجميع أن يراعوه، ويجب على ولي الأمر أن يفي لرعيته بموجب العهد فينظر في مصالحهم ويدفع عنهم الضرر والظلم ويعمل لهم كل ما فيه مصلحة لدينهم ودنياهم، لأنه راعٍ عليهم ومسئول عن رعيته، ومن أولى ذلك أن يلزمهم بطاعة الله ويمنعهم من معصية الله سبحانه وتعالى لأنه راع ومسئول عن رعيته، ثم على الرعية أن يفوا بالعهد الذين بينهم وبين إمامهم وذلك بالسمع والطاعة له بالمعروف ما لم يأمر بمعصية الله عزَّ وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)، وليس من لازم الإمام أن يكون معصوماً لا يحصل منه نقص، أو معصية فيطاع ولو كان عنده نقصٌ ما لم يصل إلى حد الكفر، فإنه يُسمع له ويُطاع لما في ذلك من المصلحة العامة استتباب الأمن، حقن الدماء، المحافظة على حرمات المسلمين فيُطاع ولي الأمر ولو كان في نفسه عنده تقصير في دينه أو عنده ظلم للناس، فعلى الناس الصبر لأن هذا أخف من لو نقضوا عهده حصلت الفوضى وضياع الكلمة تسلط العدو، وكذلك العقود التي بين الناس بعضهم مع بعض عقود المعاملات والشركات والمقاولات، وكل ما يحصل بين الناس من العقود بشرط أن لا تكون على محرم تكون عقود مباحه وعلى أمر مباح فإنه يجب الوفاء بها ولا تجوز الخيانة، وأول ذلك عقد الزوجية بين الزوجين، فعقد الزوجية يوجب على كل من الزوجين القيام بحق الآخر عليه، فالزوج يقوم بحقوق زوجته والزوجة تقوم بحقوق زوجها (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فيجب على كل من الزوجين أن يقوما بحقوق الآخر في حدود ما شرعه الله سبحانه وتعالى، والله جلَّ وعلا سمى عقد الزوجية (مِيثَاقاً غَلِيظاً) سماه (مِيثَاقاً غَلِيظاً) (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) فيجب بهذا الميثاق أن يوفى به من كل من الطرفين الزوج والزوجة، وكذلك عقود البيع يجب الوفاء بها وعدم الخيانة وعدم الغش والخداع والغرر والصدق تجنب الكذب قال صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ َكَذَبَا وكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" فعلى المتبايعين في السلع وغيرها أن يصدق كل منهما مع الطرف الآخر لا يغش ولا يخون ولا يكذب ولا يغدر هذا شأن المؤمنين الصدق والأمانة، وكذلك في الشركات فيجب على الشريك أن ينصح لشركائه ولا يخون في شيء من أحوال الشركة أو يبخس شيئاً من أموال الشركة لأنه أمين من قبل شريكه أمينٌ ووكيل من قبل شريكه، فعليه أن يصدق مع شريكه في الحديث القدسي: "أنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا" معنى الحديث أن الله مع الشريكين بتوفيقه وتسديده، وأنه إذا خان أحد الشريكين الآخر فإن الله جلَّ وعلا يتخلى عنهما فيحصل لهم الضرر ولا يحصل لهم العون من الله عزَّ وجل والتوفيق من الله، وكذلك في عقود المقاولات، وما أكثرها اليوم عقود المقاولات هذه من العقود الإيجارات إيجاره على عمل، فيجب على المقاول أن يفي بعمل المقاولة وينصح في ذلك ولا يغش ولا ينقص شيئا من أعمال المقاولة بل يقوم بما يقتضيه العقد على الوجه المطلوب، وكذلك على الطرف الآخر أن يُعطي المقاول حقه إذا أتم العمل من غير مماطلة ومن غير تأخير، وكذلك الأجير في الأعمال الإجارة الخاصة والإجارة العامة فيعطى أجره عند نهاية عمله قال صلى الله عليه وسلم: "أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"، ومن الذين يكون الله خصمهم يوم القيامة رجل استأجر أجيراً فستوفى منه العمل ولم يوفِه حقه.
فاتقوا الله، عباد الله، أوفوا بالعقود كما أمركم الله سبحانه وتعالى، ومن الوفاء بالعقود ما يكون بين ولي أمر المسلمين وبين الدول الأخرى الدول الكافرة، فإذا عقد ولي أمر المسلمين مع دولة من الدول الكافرة معاهدة فيجب على جميع الرعية أن يفوا بهذا العهد الذي عقده ولي الأمر لأنه من مصلحتهم ولأن الله أمر بذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاقد مع الكفار ويتمم العقد لهم ويتعاهد معهم ويتمم العهد معهم حتى ينتهي ما لم يخشى منهم خيانة، فإذا خشي منهم خيانة فإنه لا يفاجئهم بنقض العقد أو العهد بل يُعلن لهم أنه سيُنهي عقدهم ولا يأخذهم على غرة، بل يُعلن لهم ذلك حتى يكونوا على بينة من أمرهم: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) لا يقال هؤلاء كفار نعم هم كفار ولكن ولي أمرنا تعاقد معهم ونحن نسمع ونطيع لولي أمرنا وهذا من صالحنا فنفي بهذا العهد مع الكفار، في دماءهم وفي أموالهم، وفي حرماتهم وفي الحديث الصحيح: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا ليوجد مِنْ مَسِيرَةِ سبعين سنة" فالمعاهد له حرمته ويجب الوفاء بعهده، لأن هذا مما أمر الله جل وعلا به: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وشأن المسلمين الوفاء، قد أثنى الله على أهل الوفاء قال جلَّ وعلا: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)، فدين الإسلام دين الوفاء حتى مع الأعداء: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، فالواجب على المسلمين الوفاء بالعهود الفردية والعهود الجماعية بما بين المؤمنين بعضهم مع بعض، وفيما بين المسلمين والكفار، فالإسلام دين الوفاء ودين الأمانة وليس دين الغدر والخيانة.
فاتقوا الله، عباد الله، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيان والذكرِ الحكيم، أقولٌ قولي هذا واستغفرُ الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، ومن العهد الذي بين ولي الأمر وبين رعيته الأعمال التي يكلها ولي الأمر إلى الموظفين، فهي أمانة هذه الأعمال وهذه الوظائف أمانة ائتمنهم ولي الأمر عليها، وتعاهدوا معه عليها، فيجب على الموظف أن ينصح في عمله، وأن يقوم بحقوق الوظيفة ولا ينقص منها شيئاً لاسيما وهو يأخذ في مقابل ذلك راتباً ومالاً، فيجب عليه الوفاء بالقيام بوظيفته والله سمى الوظائف أمانات قال جلَّ وعلا: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ) يعني الولاة هذا خطاب للولاة (أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) أي: أن تولوا الأعمال من فيهم أهلية للقيام بها، تولوا الأعمال والوظائف من فيه أهلية للقيام بها، ثم على الموظفين أن يتحملوا هذه الأمانة بصدق وإخلاص، وأن يقوموا بأعمالهم على الوجه المطلوب وإلا فإنهم مسئولون أمام الله سبحانه: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) فيراعي أمانته ويقوم بها على الوجه المطلوب (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ)، فالله جلَّ وعلا سيسأل الموظفين يوم القيامة لأن بعض الناس بعض الموظفين إذا لم يكن هناك رقابة من ولي الأمر لم يكن هناك رقابة تتابعه يتساهل وينسى أن الله رقيب عليه سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)، فأنت مسئول أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عن هذا العمل الذي تحملته في ذمتك وهو لنفع المسلمين وتأخذوا في مقابله من بيت المال سيسأل الله عنه يوم القيامة، فعليك أن تحسن القيام بعملك مخلصاً في ذلك لتؤدي ما في ذمتك من الأمانة فيما بينك وبين الله، وفيما بينك وبين ولي الأمر، وفيما بينك وبين الناس.
فتقوا الله، عباد الله، تذكروا هذه الأمور وقوموا بها خير قيام وناصحو من ترون منه خللاً في أعماله ناصحوهم.
واعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين،الأئمةَ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن الصحابةِ أجمعين، وعن التابِعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وجعل هذا البلد آمناً مستقراً وسائر بلاد المسلمين يا ربَّ العالمين، اللَّهُمَّ من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، وجعل تدميره في تدبيره، اللَّهُمَّ كف عنا بأس الذين كفروا، اللَّهُمَّ كف عنا بأس الذين كفروا، اللَّهُمَّ كف عنا بأس الذين كفروا فأنت(أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ).
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، فذكروا الله يذكركم، واشكُروه نعمه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
|