التحذير من الإصرار الخطير
الحمد لله غافر الذنوب ، ومنفس الكروب ، } قَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، } لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، بعثه للناس كافة ، وأرسله بالحق : } بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ { صلوات ربي عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصية الله لنا ولمن كان قبلنا ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ : } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ { ، } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا { ، } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
الوقوع في الخطأ ، من طبيعة الإنسان ، فهو طبع لا يفارقه ولا ينفك عنه ، و فيه دليل على ضعفه وعدم كماله ، ووسيلة لمراجعة نفسه ، وتصحيح وضعه ، ولذلك ـ أيها الأخوة ـ إذا كان هذا الإنسان ، من أهل التقوى ، فإن وقوعه في الخطأ يجعله يزداد قربا إلى ربه ، ويكون خطأه وسيلة لرفع درجاته ، وإعلاء منازله ، يقول تبارك وتعالى : } إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ { وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن أنس t ، يقول النبي r : (( كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ فَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ (( .
فالخطأ ـ أيها الأخوة ـ من طبيعة البشر ، الناس يخالفون أمر الله U ، وأمر رسوله r ، بفعل المحذور ، أو ترك المأمور ، وهذا هو الخطأ !
عندما ـ أخي المسلم ـ تفعل شيئا قد نهيت عن فعله ، أو تترك أمرا ، لم تؤمر بتركه ، فقد وقعت بالخطأ ، وتعتبر في عداد الخطائين ، مهما كان ذلك الأمر ، فانتبه أخي ، زن ما تقوم به ، وما تفعله ، وما تقوله ، بميزان قال الله U ، وقال رسوله r ، فقد أنكر صحابي من أصحاب النبي r ، على أقوام شهد لهم النبي r بالخيرية ، لم يقعوا بما نقع به في هذا الزمان الذي نعوذ بالله من شره ، ونسأل الله السلامة من خطره ، والنجاة من ضرره ، فقال أنس t لؤلائك : إنّكم لتعملون أعمالاً هي أدَقُّ في أعيُنِكُم من الشَّعْرِ، كُنَّا نَعُدُّها على عهد رسول الله r من الموبقات .
بعض الناس ـ أيها الأخوة ـ يعتقد أن الخطأ ، لا بد أن يقع في الزنا ، أو شرب الخمر ، أو إدمان المخدرات ، وهو في أخطاء من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه ، إن نظرت في شكله أو لبسه أو معاملاته ، أو علاقاته بل وعباداته ، تجده مخالفا لأمر الله U وأمر رسوله r ، ولكنه لجهله ، وضعف إيمانه ، وقلة تقواه ، لا يعترف بأنه من الخاطئين ، ولا يقر بأنه من العصاة المذنبين ، ولذلك يبقى على خطئه حتى تفجأه منيته ، فيموت على تقصيره ومخالفاته وذنوبه ومعاصيه ، فيلاقي ربه بما مات عليه ، لأن النبي r يقول في الحديث الذي رواه مسلم : (( يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ )) .
فالمغني يبعث مغنيا ، والملبي يبعث ملبيا ، والحليق حليقا ، والمسبل مسبلا ، والمرابي مرابيا ، وقارئ القرآن قارئا ، والساجد ساجدا ، وكما قال تبارك وتعالى : } مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ { .
أيها الأخوة المؤمنون :
فالخطأ من طبيعة البشر ، ولكن أهل الإيمان ، الذين تمكنت التقوى من نفوسهم ، وسكن الخوف في قلوبهم ، يتميزون عن غيرهم عند وقوعهم بالخطأ ، بسرعة رجوعهم إلى خالقهم ، ومبادرتهم بتوبتهم ، يقول U : } وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ { .
أيها الأخوة :
فالإصرار على الخطأ ، كبيرة من كبائر الذنوب ، وعادة من عادات الكذابين الأفاكين ، وصفة من صفات المترفين المتكبرين ، ومنهج للمعرضين المستهزئين ، وسبب من أسباب التعرض للنار وسخط الجبار ، يقول تبارك وتعالى : } وَيلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ، يَسمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتلَى عَلَيهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُستَكبِرًا كَأَن لم يَسمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، وَإِذَا عَلِمَ مِن آيَاتِنَا شَيئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ مُهِينٌ ، مِن وَرَائِهِم جَهَنَّمُ وَلا يُغنِي عَنهُم مَا كَسَبُوا شَيئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَولِيَاءَ وَلَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ { ، ويقول جَلَّ وَعَلا : } وَأَصحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصحَابُ الشِّمَالِ ، في سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ، وَظِلٍّ مِن يَحمُومٍ ، لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ، إِنَّهُم كَانُوا قَبلَ ذَلِكَ مُترَفِينَ ، وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الحِنثِ العَظِيمِ { ، وَصَحَّ عَنهُ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره ، أَنَّهُ قَالَ : (( وَيلٌ لأَقمَاعِ القَولِ ، وَيلٌ لِلمُصِرِّينَ ، الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُم يَعلَمُونَ )) .
فحري بك أخي المسلم ، أن تحذر من كل أمر فيه مخالفة لأمر ربك ، أو أمر نبيك r ، حتى وإن كان في نظرك ومقاييسك صغيرة من صغائر الذنوب ، لأن الإصرار على الصغيرة ، يصيرها كبيرة من الكبائر ، ويحول دون تكفيرها بالأعمال الصالحة ، وكما قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : لا صغيرة مع الإصرار .
إياي وإياك ـ أخي المسلم ـ أن تتهاون بمعصية ، أو تحتقر مخالفة ، لأن التهاون بالمعاصي ، واحتقار المخالفات ، هو بحد ذاته معصية ، تستوجب التوبة !
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
} قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا { .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
إن الإصرار على الذنوب والمعاصي ، واستصغار المخالفات والآثام ، ليس من صفات المؤمنين ، ولا من منهج عباد الله الصادقين ، إنما هو من صفات الفجرة الفاسقين ، ولذلك يقول عبدالله بن مسعود t : إِنَّ المُؤمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَن يَقَعَ عَلَيهِ ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا .
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنراجع أنفسنا ونحاسبها ، ولنزن أعمالنا وأقوالنا بميزان الكتاب والسنة ، ولنحذر التمادي بالذنوب والمعاصي ، لأن في ذلك موت القلوب وانتكاسها ، ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم ، يقول النبي r : (( تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ كَالحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ سَودَاءُ ، وَأَيُّ قَلبٍ أَنكَرَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ بَيضَاءُ، حَتى تَصِيرَ عَلَى قَلبَينِ : عَلَى أَبيَضَ مِثلِ الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ ، وَالآخَرُ أَسوَدَ مُربَادًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا ، لا يَعرِفُ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُ مُنكَرًا إِلاَّ مَا أُشرِبَ مِن هَوَاهُ )) .
اسأل الله U لي ولكم علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وسلامة دائمة ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك أن تصلح فساد قلوبنا ، وسوء نفوسنا ، وتقصير جهودنا ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ياسميع الدعاء . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، ونسألك علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وسلامة دائمة برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وكلمة الحق في الغضب والرضا ، والقصد في الفقر والغنى ، والرضا بعد القضاء ، وبرد العيش بعد الموت ، ونسألك نعيما لا ينفذ ، وقرة عين لا تنقطع ، ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراءٍ مضرةٍ ولا فتنةٍ مضلة .. اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداةً مهتدين لا ضالين ولا مضلين
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ، ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ، ونسألك قلوبًا سليمة وألسنةً صادقة ، ونسألك من خير ما تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم ونستغفرك لما تعلم
اللهم اشف مرضانا . وارحم موتانا ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين . } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
|