تعظيم القرآن
خطبة جمعة بتاريخ / 7-5-1433 هـ
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ، ما ترك خيراً إلا دلَّ الأمة عليه ، ولا شراً إلا حذَّرها منه ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .
أيها المؤمنون عباد الله : إنَّ نعَم الله جل وعلا علينا كثيرةٌ لا تحصى ، عديدةٌ لا تُستقصى ، وإن من أجلِّها شأناً وأعظمها مكانةً وأرفعها منزلة : نعمة القرآن الكريم ، الذكر الحكيم ، كلام رب العالمين ؛ فالقرآن - أيها المؤمنون- نعمةٌ عظمى وعطيةٌ كبرى وهبةٌ ما أجلَّها وأعظمها منَّ الله سبحانه وتعالى بها على أمة الإسلام . والله جل وعلا حمِد نفسه على إنزال هذا القرآن والمنِّ به على العباد وتمدَّح إلى عباده بهذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة ، وذكر جل شأنه عِظم مقام هذه النعمة ورفعة شأنها في مواضع عديدة من القرآن الكريم:
قال الله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } [الكهف:1-2] .
ويقول الله تبارك وتعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان:1] .
ويقول جل وعلا : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [الشعراء:192-195] .
ويقول الله تبارك وتعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء:9-10].
ويقول الله تبارك وتعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [الإسراء:82] .
أيها المؤمنون عباد الله : إنَّ القرآن كتاب ضياءٍ ونور ، وهدى ورحمة ، وشفاءٌ لما في الصدور { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [المائدة:15-16] .
أيها المؤمنون عباد الله : إنَّ القرآن شرف أمة الإسلام ومفخرتها العظمى ومنقبتها الخالدة { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44] ؛ ذكرٌ لك ولقوك : أي شرفٌ لكم وعِزٌّ ومفخرة ورفعة ومنة عظيمة ومنقبة خالدة منَّ الله تبارك وتعالى عليكم بها ، وعنها تُسألون يوم القيامة ؛ أي أن الله جل وعلا سائلكم عن هذا القرآن . كيف أنتم مع هذا القرآن ؟ هل عظمتموه حق تعظيمه ! وقدرتم له قدره ! وعرفتم له مكانته ! وتلوتموه كما ينبغي علماً وعملا ؟! أم أنَّ حظكم منه هجراً وصدودا وإعراضاً وتنكُّبا ؟! .
عن القرآن يسأل اللهُ تبارك وتعالى الناسَ يوم القيامة ؛ فما شأنهم مع هذا الكتاب العظيم ؟!
عباد الله : فيا ويل من كان حظ القرآن منه الهجر والصدود والإعراض { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30] .
يا ويل من أعرض عن القرآن عن تلاوته وعن فهمه والعمل به وصدَّ عنه صدودا { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه:99-101] .
ويا ويل - عباد الله - من يكون شأنه مع القرآن استخفافاً واستهزاء ، وسخريةً وتهكما ، قال الله تبارك وتعالى : { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة65-66] .
ويا ويح - عباد الله - من يلحد في آيات الله تبارك وتعالى ويميل بها عن مقاصدها العظيمة وغاياتها الجليلة وأهدافها النبيلة { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت:40-42] .
أيها المؤمنون عباد الله : وعندما لا يعي الناس قدر القرآن ومكانته العظمى ومنزلته العليَّة وأنه مفخرة أمة الإسلام وعزّها ورفعتها ؛ يظهر في أوساطهم صنوفاً من الاستهانة بالقرآن والاستخفاف به ، وعدم التعظيم لمقامه ، وعدم إنزاله منزلته اللائقة به ، وعدُّ هذه الصور يطول بها المقام ، لكن - عباد الله - علينا أن نعظِّم كتاب ربنا وأن نعيَ أنه عزُّنا وشرفنا ، وأنَّ إضاعتنا لهذا القرآن وعدم تعظيمنا له ضياع لنا في الدنيا والآخرة . نحن قوم - أيها المؤمنون - أعزنا الله بالقرآن ورفع شأننا بالقرآن وأعلى مقامنا بالقرآن ؛ فمتى ضيَّعنا القرآن ضِعنا .
اللهم مُنَّ علينا بتعظيم كتابك يا ذا الجلال والإكرام ، واملأ قلوبنا تعظيماً للقرآن ، واجعلنا إلهنا ممن يتلوه حق تلاوته على الوجه الذي يرضيك عنا .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمد الشاكرين ، وأثني عليه ثناء الذاكرين ، لا أحصي ثناءً عليه هو جل وعلا كما أثنى على نفسه ؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .
وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله .
أيها المؤمنون عباد الله : إنَّ الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن ليُعمل به وليكون منهج حياةٍ للمسلمين ؛ يهتدون بهداياته ، ويستضيئون بإضاءاته ، ويعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويحلِّون حلاله ، ويحرِّمون حرامه ، ويصدِّقون أخباره . ومتى كان المسلمون كذلك مع القرآن كانوا في عزٍّ ورفعة وسموٍّ وعُلو في الدنيا والآخرة .
ولهذا عباد الله : لنحاسب أنفسنا كيف نحن مع هذا الكتاب العظيم !! كلام الله تبارك وتعالى الذي لا يقادَر قدره ولا تُدرك عظمته ومكانته وعلو شأنه ، كيف نحن مع هذا القرآن !! هل عظمناه حق تعظيمه وعرفنا له مكانته ؟ هل عرفنا أنَّ فضله على غيره من الكلام كفضل الله تبارك وتعالى على خلقه ؟ هل علِمنا - عباد الله - أنه سبب عزنا وسبيل هدايتنا ورفعتنا في الدنيا والآخرة ؟ هل اعتنينا بتنشئة أبنائنا وتربيتهم على تعظيم القرآن والحفاوة به والعناية به تلاوةً وفهماً وعملاً ؟ .
والقرآن أُنزل ليُعمل به ، وكثير من الناس انشغلوا عن تلك الغاية وجعلوا مجرد تلاوته عملا ، بل إنَّ بعضهم اكتفوا من ذلك بأنه جعلوه في لوحات جمالية وتحف تُزخرف بها الجدران دون أن يكون لهم حظٌّ من هذا القرآن فهماً لآياته وتدبراً لدلالاته وعملاً بما يقتضيه .
فنسأل الله جل وعلا أن يوفقنا أجمعين للعمل بهذا القرآن ، وأن يجعلنا أجمعين بمنِّه وفضله وجوده وكرمه من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته .
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد ، وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، وأذلَّ الشرك والمشركين ، ودمّر أعداء الدين ، اللهم احمِ حوزة الدين يا رب العالمين . اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم انصرهم في أرض الشام وفي كل مكان ، اللهم كن لهم ناصراً ومعِينا وحافظاً ومؤيدا ، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم ، اللهم احقن دماءهم ، واحفظهم إلهنا في أنفسهم وأموالهم وأهليهم وأعراضهم يا ذا الجلال والإكرام . اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم .
اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علَّمته أحداً من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجِلاء أحزاننا وهمومنا وغمومنا . اللهم ذكِّرنا منه ما نُسِّينا وعلِّمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا .
اللهم إنا نسألك حبك ، وحب من يحبك ، وحب كلامك يا ذا الجلال والإكرام ، وحب كل عمل يقرِّبنا إلى حبك يا حي يا قيوم ، وأن تجعل حبك أحبَّ إلينا من أنفسنا وأهلينا ومن الماء البارد في شدة الظمأ .
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكها أنت وليها ومولاها . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين ، اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك ، اللهم وفِّقه لهداك ، اللهم وسدِّده في أقواله وأعماله ، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين .
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم،{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }.
|