حادثة طالبات جامعة حائل
الحمد لله القائل : } كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ { والقائل : } وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه : } يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، أرسله : } بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن سار على نهجه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U وصية الله لكم ولمن كان قبلكم ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فاتقوا الله ـ عباد الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
حادثة طالبات جامعة حائل ، والتي كانت ضحيتها ثلاثة عشر طالبة ، قضين نحبهن خلال الأيام الماضية ، حادثة هزت البلاد ، وتأثرت لها قلوب كثير من العباد ، وهي حادثة بل كارثة تدمي القلوب ، ولكنه قبل ذلك قضاء الله وقدره ، والإيمان بالقضاء والقدر ، خيره وشره ، ركن من أركان الإيمان ، لن يكمل إيمان العبد إلا به ، ففي صحيح مسلم ـ رحمه الله ـ أن جبريل ـ عليه السلام ـ سأل النبي e فقال : أَخْبِرْنِى عَنِ الإِيمَانِ . فقَالَ e : (( أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ )). فقَالَ جبريل صَدَقْتَ .
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه ـ رحمهم الله ـ يقول النبي e : (( ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر ، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطئك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا دخلت النار )) .
فالحادث ـ أيها الأخوة ـ وما أزهقت فيه من أرواح ، أمر قد قدره الله U عليهم ، وهم في بطون أمهاتهم ، كما في الحديث الصحيح عن عبدالله بن مسعود t قال : حَدَّثَنَا رسولُ الله e وهو الصادق المصدوق (( إن أَحدكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ فيِ بَطْنِ أُمِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمَا نُطْفَةَ ، ثُمَّ يَكُونُ علقةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ ، فَيَنْفَخَ فِيهِ الرُّوحَ ، وَ يُؤْمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ : بِكَتْبِ رِزْقِهِ ، وَأَجَلهِ ، وَعَمَلِهِ ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ )) فالحادث ـ أيها الأخوة ـ هو من باب القضاء والقدر ، وصدق الله U : } فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ { .
فنحن كمؤمنين ؛ نؤمن بقضاء الله وقدره ، وقدوتنا بذلك رسولنا e ، الذي جاء عنه في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه قوله e : (( إن أصابك شيء فلا تَقُل : لو أنَّي فعلتُ لكان كذا وكذا ، ولكن قل : قَدَّر الله وما شاءَ فَعَل ، فإن « لو» تفتحُ عَمَلَ الشيطان ))
ولا شك ـ أيها الأخوة ـ أن من حق كل مواطن ، على هذه الأرض ، في هذه البلاد المباركة ، توفير جميع الخدمات ، من جامعات ومستشفيات وطرق ، وخاصة في عهد دولة نال خيرها البعيد والقريب ، وتنفق الأموال الطائلة من أجل خدمة المواطن ، ولكن يجب أن لا نكون ممن يتسبب بفتح عمل الشيطان بلو ، فلا كثرة الجامعات القليلة ، ولا اتساع الطرق الضيقه ، ولا عدم مبالاة من خف ميزان الخوف من الله من قلوبهم ، ولم يكونوا أهلا لثقة ولاة الأمر بهم ، وغير ذلك مما تعاني منه بلادنا بسبب تقصير بعض الجهات ، براد لقضاء الله وقدره ، ولا يجوز لمسلم أن يتعلق بلو في هذه الحادثة المؤلمة الشنيعة ، ولا بغيرها من الحوادث ، نعترف أن هناك تقصير وإهمال وعدم مبالات من بعض الجهات ، ولا أدل على ذلك من اهتمام خادم الحرمين الشريفين بهذا الجانب ، وأمره بلجان لتقصي الحقائق ، وهيئة لمحاربة الفساد ، ولكن أمر النبي e وتوجيهه ، يجب أن يكون ضابطا لكلامنا وما يدور في عقولنا: (( فإن « لو» تفتحُ عَمَلَ الشيطان )) كما قال e .
أيها الأخوة :
إن الطالبات قد مضى بهن قدر الله U وانتهين من هذه الحياة ، ولكن عزاؤنا ؛ اننا نحسبهن أنهن توفين ـ رحمهن الله ـ وقد خرجنا في سبيل طلب العلم ، والرسول e يقول في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : (( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِيْ بِهِ عِلْمًا سَهل اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجنَّة )) وفي رواية عند أبي داود : (( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجنَّة وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ )) .
وعزاؤنا أيضا ـ أيها الأخوة ـ أننا نرجوا لهن الشهادة ، وأن يكن في عداد الشهداء يوم القيامة ، ففي الحديث في الموطأ وعند أبي داود والنسائي ، يقول e : (( الشهداء سبعة ، سِوَى القتلِ في سبيل الله : المطعونُ شهِيد ، والحَرِقُ شهِيد ، والغَرِقُ شهيد ، وصاحبُ ذاتِ الجَنبِ شهيد ، والمبطونُ شهيد ، والذي يموت تحت الهدْم شهيد ، والمرأة تموت بِجمعَ شهيد )) وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن من صدمته سيارة أو انقلبت به سيارته ثم تحطمت عليه فمات أنه ملحق بشهيد الهدم المذكور في الحديث . فينبغي لنا ، بل يجب علينا ـ أيها الأخوة ـ أن نؤمن بقضاء الله وقدره ، ونسأل الله لضحايا الحادث الرحمة والمغفرة ، وأن يجعل وفاتهن في سبيل طلب العلم ، وان يكن من الشهداء يوم القيامة ، وأن يعوضهن خيرا ، إنه سميع مجيب أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكرله على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ما من شيء خلقه الله تعالى وإن كان في وجوده شر نسبي إلا ومصلحة وجوده أعظم من مفسدتها، وهذا الجزء من الشر لا ينسب لله تعالى ولكن ينسب إلى مخلوقاته ، وإنما ينسب له تعالى الحكمة من خلقه . فكل الأمور السيئة كما يقول ابن القيم : قدرها الله سبحانه وقضاها لحكمته ، وهي باعتبار تلك الحكمة نوع من إحسانه ، فإن الرب سبحانه لا يفعل سوءاً قط ، بل فعله كله حسن وخير وحكمة ، كما قال تعالى : } بِيَدِكَ الْخَيْرُ { وقال أعرف الخلق به e : (( والشر ليس إليك )) . فهو لا يخلق شرا محضا من كل وجه ، بل كل ما خلقه ففي خلقه مصلحة وحكمة ، وإن كان في بعضه شر جزئي إضافي ، وأما الشر الكلي المطلق من كل وجه فهو تعالى منزه عنه وليس إليه .
وقال الشيخ ابن عثيمين : الله خلق كل شيء الخير والشر، ولكن الشر لا ينسب إليه ، لأنه خلق الشر لحكمة ، فعاد بهذه الحكمة خيرا ، فالشر ليس في فعل الله ، بل في مفعولاته ، أي مخلوقاته .
أيها الأخوة :
لا شك أن وفاتهن ـ رحمهن الله ـ فاجعة الفواجع ، وخاصة أنهن يقطعن يوميا أكثر من أربعمائة كيلو متر ، ومن خلال طريق ضيق أكل عليه الزمن وشرب ، وفي وسائل تفتقد أبجديات وسائل السلامة ، وغير ذلك مما يندى له الجبين ، ولكن مع ذلك كما ذكرنا فيه خير من الله U ، ولعل من ذلك محاسبة ولاة الأمر للمهملين من المسؤلين ، والذين سوف يسألهم الله U إن كان إهمالهم سببا فيما حدث ، سواء في التعليم أو الطرق أو الصحة ، وفي الحديث الصحيح يقول النبي e : (( ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك ؛ إلا أتى الله عز وجل مغلولا يوم القيامة يده إلى عنقه فكه بره أو أوبقه إثمه ، أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة (( .
ومن الخير ـ أيها الأخوة ـ العبرة والموعظة لنا نحن الأحياء ، فكلنا نسير مع هذه الطرقات ، ونركب تلك السيارات ، وقد كتب علينا الموت وموعده ونحن في بطون أمهاتنا ، ولا نعلم متى يحل بنا وكيف ، فعلينا أن نستعد له ، ونأخذ بالأسباب التي أمرنا الله U بالأخذ بها ، وكما قال تعالى : } وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ { يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين : ترك ما أمر به العبد، إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح ، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح، فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة، فمن ذلك ، ترك الجهاد في سبيل الله ، أو النفقة فيه، الموجب لتسلط الأعداء ، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف ، أو محل مسبعة أو حيات ، أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا، أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك ، فهذا ونحوه ، ممن ألقى بيده إلى التهلكة.
فيجب علينا ـ أيها الأخوة ـ أن لا نلقي بأيدينا إلى مثل هذه الحوادث المؤلمة ، نلتزم بقواعد المرور ، ونأخذ بأسباب السلامة منها ، ونحذر السرعة الزائدة والتهور أثناء القيادة وغير ذلك مما يتسبب وتسبب في إزهاق نفوس كثير من المسلمين .
اسأل الله U أن يجبر مصابنا في بنات جامعتنا ، وأن يغفر لأمواتنا ، وأن يصلح فسادنا إنه سميع مجيب .
اللهم أرحم اموات المسلمين ، اللهم اغفر لهم وارحمهم ، وتجاوز عنهم ، اللهم جازهم بالحسنات إحسانا ، وبالسيئات عفوا وغفرانا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم وفق ولاة أمورنا لهداك ، واجعل عملهم برضاك ، وارزقهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليهم ، واصرف عنهم بطانة السوء يارب العالمين .
اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، وذل الشرك والمشركين ، اللهم آمنا في أوطاننا واستعمل علينا خيارنا ، واجعل اللهم ولايتنا في عهد من خافك واتقاك يا رب العالمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا سحا غدقا مجللا عاجلا غير آجل نافعا غير ضار ، اللهم غيثا تغيث به البلاد والعباد ، وتسقي به الحاضر والباد ، اللهم سقيا رحمة لا هدم ولا غرق . اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم اغثنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { .
فاذكرو الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|