ثاني جمعة في رمضان 32هـ
الحمد لله الكريم الجواد ، اللطيف بالعباد ، المتفرد بالخلق والإيجاد ، المنزه عن الأضداد والأنداد .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، حمدا يفوق الإحصاء والتعداد .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، فهو خير نبي وأصدق هاد ، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه ، ومن تمسك بسنته ، وسار على هديه ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد عباد الله :
تقوى الله U ، هي وصية الله للأولين والآخرين ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ وخاصة أننا في شهر التقوى ، وفي موسم ما يبعث إلى التقوى } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
صدق الله U ، } وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا { ، رمضان أيام معدودات ، } كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ { تأمل ـ اخي المسلم ـ أيام معدودات ، هذا الذي يستثقله بعض الناس ، ويتمنى بعضهم نهايته ، ماهو إلا أيام معدودات .
أنت يا من عجزت عن نفسك ، وذهبت بك إلى ما لايحمد عقباه ، وقادتك إلى المهالك ، في هذه الأيام المعدودات ، تدارك نفسك ، وبادر إلى توبة خالصة ، وعجل بأوبة صادقة ، فإن مستقبلك لا يبشر بخير ، إذا كان العجز مبدأ لك في أيام معدودات ! فكيف بك بعدد من السنين ، فهذه الأيام ماهي إلا مقياس ودليل على ما ينتظرك .
أيها الأخوة :
ويمضى ثلث الأيام المعدودات ، والله أعلم بما قضيت هذه الأيام ، فالناس بين رابح وخاسر ، وبين غانم ومغبون ، ولكن ينبغي لنا ، بل يجب علينا ، الإحسان والتقرب إلى الله فيما بقي من أيام ، التي سوف تمر كما مرت الأيام التي قبلها .
أيها الأخوة :
أعمال كثيرة ، وعبادات جليلة ، ومجالات متنوعة ، تقرب من الله سبحانه ، ينبغي للمسلم أن يحرص عليها ، وأن يكون من أهلها ، وهي فرصة في هذا الشهر العظيم .
ومن ذلك ـ أيها الأخوة ـ صلاة التراويح ، وبعد أيام يضاف لها قيام الليل ، فقد جاء عن النبي r في الحديث الذي رواه ابو داود وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه، يقول r : (( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )) فاحرص ـ أخي المسلم ـ على هذه النافلة القليلة التي يكتب لك بها الأجر الكثير ، واحذر أن تكون من هؤلاء الذين لا يصلون إلا العشاء ويخرجون إلى اسواقهم أو استراحاتهم أو ملاعبهم ، أو أولائك ، الذين يتنقلون من مسجد إلى مسجد ، بحجة البحث عن الأصوات الجميلة ، أو المباني المزخرفة ، فيمضي وقتهم يتنقلون بين المساجد ، فيفوتهم هذا الأجر العظيم ، بل يفرطون حتى في صلاة العشاء ، الفريضة التي لا تعادل بصلاة النافلة ، والسبب عدم أعجابهم بصوت إمامهم ، وفي الحديث الصحيح يقول r : (( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه )) .
وكذلك ـ أيها الأخوة ـ من العبادات العظيمة ، التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم ، عبادة الدعاء ، يقول تبارك وتعالى : } وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ { فالدعاء عبادة تقرب إلى الله U ، وله مكانة عظيمة في شهر رمضان ، وأي مكانة للدعاء أعظم من أنه يستجاب ، ففي الحديث الذي رواه ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو ، يقول النبي r : (( إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد )) وفي حديث آخر عند الترمذي بسند صحيح ، يقول r : (( ثلاثة لا ترد دعوتهم ؛ الصائم حتى يفطر ، والإمام العادل ، والمظلوم )) .
فالدعاء في هذا الشهر ، يتميز عنه في غيره ، وينبغي للمسلم أن لا يغفل عنه ، ينبغي أن يدعو لنفسه ، ويدعو لأهل بيته ، بل ويدعو للمسلمين ، فالأمة بحاجة ـ أيها الأخوة ـ لعلها توافق ساعة إجابة . وفي الحديث الذي صححه الألباني ـ رحمه الله ـ يقول النبي r : (( ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها أثم ولا قطيعة رحم ؛ إلا اعطاه بها إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته ، وإما يدخرها له في الآخرة ، وإما يصرف عنه من السوء مثلها )) قال الصحابة : إذا نكثر يا رسول الله ! قال r : (( الله أكثر )) . فالدعاء عبادة ينبغي الإكثار منها ، وخاصة في هذا الشهر العظيم . بعض الناس ـ أيها الأخوة ـ لا يعرف الدعاء إلا إذا اعتدا عليه غيره ، فيطفق بالدعاء ، بأن لا يوفقه الله ، أو بأن يأخذه أخذ عزيز مقتدر ، أو بأن يريه الله به عجائب قدرته ، ولكنه ولا يوم من الأيام سأل الله أن يدخله الجنة ، أو أن يصلح ذريته ، أو ان يرزقه الهداية والإستقامة ، وفي الحديث الحسن يقول النبي r : (( لا تعجزوا في الدعاء ، فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد )) وفي الحديث الصحيح الآخر يقول r : (( لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )) وفي الحديث الحسن أيضا ، يقول r : (( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب ، فليكثر الدعاء في الرخاء )) .
فلنجتهد ـ أيها الأخوة ـ ولنحافظ على صلاة التراويح والقيام مع الإمام ، ونستغل لحظات الصيام بكثرة الدعاء .
اسأل الله U أن يجعلنا في هذا الشهر من عتقائه من النار ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ r أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ )) .
فالجود في رمضان ، من خلق نبينا e ، ومن الجود الذي ينبغي للمسلم أن يعود نفسه عليه ، الإنفاق في سبيل الله تعالى ، يقول تبارك وتعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ( ويقول أيضا : ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( .
فهي دعوة صادقة ، لنعود أنفسنا على الإنفاق ، فهذا شهر الإنفاق ، ولنعود أنفسنا على الجود ، فهاهو شهر الجود ، ولنكن على يقين بأننا إذا أنفقنا فإنما ننفق لأنفسنا ، هذا الذي تتصدق به على الفقير والمحتاج هو لك . يقول الله تبارك وتعالى : ) وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ( .
فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على ما يقربكم من ربكم ، وما يكون سببا في رفع درجاتكم ، وإعلاء منازلكم يوم القيامة .
احرصوا ـ أيها الأخوة ـ على استغلال شهركم بما يليق بكم وبدينكم ، اجعلوا رضا ربكم هدفا أولا لكم ، والجنة مقصدا في أولويات مقاصدكم .
واعلموا يا عباد الله بأن الله U أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه ، فقال جل من قائل عليما : } إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً { وصح عنه e أنه قال : (( من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه وبها عشرا )) فاللهم صلي وسلم وزد وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وارض اللهم عن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك ورحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم واحمي حوزة الدين ، واجعل اللهم بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا واستعمل علينا خيارنا واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور ، وبعمل متقبل مبرور يارب العالمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {.
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{ فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|