تدارك المبارك
الحمد لله الواحد القهار ، حكم بالفناء على هذه الدار ، وبالبقاء في دار القرار ، ] يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [ . وأشهد أن لا إله الله العزيز الغفار ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار ، وسلم تسليما كثيرا ما تعاقب الليل والنهار .
أما بعد عباد الله :
أوصيكم بتقوى الله U ، كما أمركم ربكم فقال : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ . فاتقوا الله يا عباد الله ، واعلموا ـ رحمكم الله ـ بأنه لم يتبق من شهر رمضان إلا القليل ، يوم أو يومان ، ونودع شهر رمضان ، انتهى رمضان ـ أخي المسلم ـ سوف يرحل بما أودعته من عمل ، سوف يرحل وينتهي إما شاهدا لك أو شاهدا عليك ، سوف تجد أيامه ولياليه وما عملت بها من أعمال ، محفوظة في كتاب : } لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا { :
يا غافلا ً وليالي الصوم قد ذهبت
زادت خطاياك قف بالباب وابكيها
واغنم بقية هذا الشهر تحظ ، فما
غرسته من ثمار الخير تجنيها
وتب لعلك تحظى بالقبول عسى
أن تبلغ النفسُ بالتقوى أمانيها
وقل إلهي ، أنا العبد الذليل وقد
أتيت أرجو أجورا فاز راجيها
فلا تكلني إلى علمي ولا عملي
واغفر ذنوبي ، فإني غارق فيها
أيها الأخوة :
من أبرز وأهم صفات المسلم ، أنه مهما بلغ تقصيره ، ومهما بلغت ذنوبه ، فإنه لا يقنط من رحمة الله تعالى ، فكلما أحدث ذنبا أحدث له توبة ، المسلم يكون دائما توابا أوابا رجاعا إلى ربه U . وما زال أخوتي في الله ، في الوقت فسحة ، فأبواب الجنة ما زالت مفتحة ، وأبواب النارـ أعاذني الله وإياكم من النارـ ما زالت مغلقة ، والشياطين ما زالت مصفدة ، وما زال الملائكة يستغفرون للصائمين ، ولله عتقاء من النار في كل ليلة ، فاجتهد يا عبد الله ، اجتهد لعلك تكون في ليلة من الليالي الباقية ، أحد المعتقين من النار ، ففي الحديث يقول النبي r : (( أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة قبلهم : خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا ، ويزين الله U كل يوم جنته )) تأمل أخي في الله ، كل يوم من أيام رمضان ، يزين الله جنته ، باقي الآن ـ كما ذكرت ـ يوم أو يومان من رمضان (( ويزين الله U كل يوم جنته ، ثم يقول : يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة ، ويصيروا إليك ، وتصفد فيه مردة الشياطين ، فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ، ويغفر لهم في آخر ليلة )) أنتبه يا عبد الله ، ما زال في الوقت فسحة ، وما زالت الفرصة مهيأة ، يغفر لهم في آخر ليلة . قيل : يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : (( لا ، ولكن العامل يوفى أجره إذا قضى عمله )) . يعني المغفرة تكون في آخر ليلة من ليالي رمضان ، في آخر ليلة ، تكون المغفرة من الله للصائمين . فاجتهد يا عبد الله فيما بقي من هذا الشهر ، واغتنم هذه اللحظات ، وتلك الساعات القليلة ، التي سوف تمر وتنتهي وبسرعة .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومهما فعل العبد من معاصي وآثام وذنوب ، فإنها بين يدي كريم ـ أي والله كريم ـ فقط المطلوب هو التوبة ، يقول تبارك وتعالى : ] قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ وفي الحديث عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : (( لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء ، ثم تبتم لتاب عليكم )) . وفي حديث آخر عن ابن مسعود t قال e : (( للجنة ثمانية أبواب ، سبعة مغلقة وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس من مغربها )) . وروى الترمذي عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله e يقول : (( قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة )) .
فالتوبة التوبة ؛ عبد الله ؛ إنك إذا تبت إلى الله U وصدقت في توبتك ، ليس فقط تغفر ذنوبك ، بل يفرح الله لذلك ؛ والله ـ أيها الأخوة ـ لو ذكر شيئ يفرح مسؤلا ؛ لبادرنا بالبحث عنه ولبذلنا جهدنا لتوفيره ، ليحصل لنا الشرف بإفراح ذلك المسؤول ؛ فكيف يا عبدالله تبخل بالتوبة ، والله جل جلاله يفرح بذلك ، هل تريد أخي أن تعرف مقدار فرح الله بتوبتك ؟ أنت يامن فرطت في أيامك الماضية ! أنت يامن تركت صلاة الجماعة من أجل مسلسل تافه ، أنت يامن لم تقم رمضان إيمانا واحتسابا ، وقضيت ليلك لمضايقة المسلمين في أعراضهم أو سرقت أموالهم ، أنت يامن لم تحفظ لسانك عن الغيبة والنميمة ، أنت يا من لم تتورع عن أكل أموال الناس بالباطل ، ترابي وترتشي وتزور وتكذب وتحتال وتغش وتخادع ، أنت يامن تعصي الله U ويستر الله عليك ، أنت يا قاطع الرحم ، أنت يا شارب الخمر ، أنت ياعاق والديه ، أنت ياظالم أنت يا خائن ، هل تريد أخي أن تعرف مقدار فرح الله بتوبتك إذا تبت ؟ تأمل هذا الحديث : يقول النبي e : (( لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا هو بها ، قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح )) . فتب يا عبد الله ، وارجع إلى ربك ، تدارك المبارك ، واختم شهرك بأوبة صادقة خالصة . اسأل الله أن يتوب علي وعليك .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
] وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ . بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
أيها الأخوة المؤمنون :
اعلموا رحمني الله وإياكم ، بأنه يشرع لكم في ختام شهركم ، زكاة الفطر ، وهي فريضة فرضها رسول الله r على المسلمين ، صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم ، ففي الحديث يقول عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : فرض رسول الله r زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير من المسلمين .
وزكاة الفطر ـ أخوتي في الله ـ طهرة للصائم مما وقع فيه من لغو ورفث ونحوه ، ونحن والله بحاجة لمثل هذه الزكاة ، قليلة المقدار عظيمة الفائدة .
نحن أخوتي في الله ، أشد حاجة لهذه الزكاة ، من حاجة المساكين لها ، وإن كان المساكين يحتاجونها لتسد جوعتهم يوم العيد ، فنحن نحتاجها لتكون طهرة لنا مما سمعتم في الحديث السابق .
فالله .. الله .. أخرجوا زكاة فطركم من طعامكم ، عن أنفسكم وعمن في بيوتكم ، وما هي إلا صاع مما تطعمون منه ، كما في الحديث عن أبي سعيد الخدري t قال : كنا نخرج في عهد النبي r يوم الفطر ـ يعني قبل الصلاة ، صلاة العيد ـ صاعا من طعام وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر .
اسأل الله U أن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، وان يرحمنا برحمته فهو أرحم الراحمين .
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى .
اللهم اجعلنا في هذا الشهر العظيم من عتقائك من النار . اللهم اجعلنا من الذين وفقوا لقيام ليلة القدر، واجعلنا فيها وفي غيرها من الليالي من الفائزين .
اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، اللهم احمي حوزة الدين ، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين . اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لهداك ، واجعل عملهم برضاك ، وارزقهم البطانة الصالحة وابعد عنهم بطانة السوء يارب العالمين . اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم اشغله بنفسه ، واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره تدميرا له يارب العالمين . اللهم إن للصائم دعوة مستجابة ، فاللهم إنا نسألك أن تغفر ذنوبنا ، وتستر عيوبنا ، وتهدي قلوبنا ، وتشفي مرضانا ، وترحم موتانا ، وتسدد ديوننا ، وتعافي من ابتليته منا برحمتك يا أرحم الراحمين .] رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [ .
عباد الله :
] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [
فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون . |