عبرة
وذكرى في كورونا والعدوى
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه
ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من
يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا
اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسـولُه، صلى الله عليه وعلى
آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ))، أما بعد:
أيها المسلمون:
من الأحداث التي أشغلت العالم في الأيام الماضية والحاضرة: مرض كورونا الوبائي
الذي ابتدأ ظهوره في دولة الصين، ثم انتشر في غيرها من دول العالم، فلنأخذ العبرة
من هذا الحدث، ولنتذكر به، فربنا تعالى وتقدس يقول: ((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي
الْأَبْصَارِ))، فمن العبر:
العبرة
الأولى: وهي أن من أصول عقيدة الإسلام وأركان الإيمان:
(الإيمان بالقدر خيره وشره)، وأن كل حوادث الكون والزمان بمشيئة الله وعلمه وخلقه
وإيجاده، وأنه قد كتب ذلك كله في كتاب قبل أن يخلق السموات الأرض بخمسين ألف سنة،
قال سبحانه: ((مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)) وقال تعالى:
((مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي
كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا))
لذا فإن المؤمن
موقن بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم
يكن ليصيبه، فهو مطمئن القلب، راض بما كُتَب له، متوكل على الله، مفوض أمره إليه،
مستسلم لقضائه، لسان مقاله وحاله يقول: ((قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ
اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ))
فإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له،
بينما الإنسان
الكافر هَلِعٌ جَزِعٌ قلق مضطرب الفؤاد تذهب به المخاوف والظنون كل مذهب، لأنه لا
يؤمن بقدر ولا يتوكل على قادر.
العبرة
الثانية: أن العدوى بمعنى (انتقال المرض) من قدر الله، وهي
سبب من أسباب الإصابة بالمرض، تابعة لمشيئة الله، وليست العدوى مؤثرة بنفسها أو
بطبعها كما كان يعتقده المشركون وأهل الجاهلية.
فالعدوى التي
يعتقد بها المشركون والجاهليون باطلة، لذا قال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
(لاَ عَدْوَى، وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ، وَلاَ صَفَرَ) متفق عليه. فنفى النبي
صلى الله عليه وسلم تأثيرها بنفسها وانتقالها بطبعها ولم ينف صلى الله عليه وسلم وجودها
وكونها سبب.
وفي رواية
للحديث في الصحيحين: (لا عدوى ولا صفر ولا هامة). فقال أعرابي: يا رسول الله: فَمَا
بَالُ الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَجِيءُ
الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيُجْرِبُهَا كُلَّهَا. فقال صلى الله
عليه وسلم: (فمن أعْدَى الأول ؟)، وفي حديث آخر: (فما أجرَبَ الأوَّلَ؟ لا عَدْوى،
ولا هامَةَ، ولا صَفَرَ، خَلَقَ اللهُ كلَّ نفْسٍ، فكَتَبَ حَياتَها، ومُصيباتِها،
ورِزقَها.) رواه أحمد والترمذي.
فقوله صلى الله
عليه وسلم: فمن أعْدَى الأول أو فما أجْرَبَ الأول؟" يعني أنّ أول بعير أُصيب
لم يَكن نتيجة عدوى ولا أنه خالَط غيره، وإنما كان ذلك بِقَدَر الله، فلو لم
يُقدِّر الله انتقال ذلك الْجَرَب لم يَنتقِل، كما أنه لو قَدّر سلامة البعير
الأول لم يُصَب.
وشاهد هذا في
حياتنا القريبة: فإن البيت أحيانا يُصاب أحد أفراده بالزُّكام فيُصاب كل من في
البيت أو بعضهم، وأحياناً أخرى متعددة يُصاب المرء في بيته ولا تنتقل العدوى لأحد
من أهل البيت! فمن الذي جعلها تنتقل في مرّة ولا تنتقل في مرّات؟ إنه الله الذي
قَدّر الأقْدَار، وليس المرض الذي اختار وانتقل أو انتشر بذاته.
يؤكد هذا
المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتخاذ الأسباب والبعد عن المصاب بمرض
ينتقل فقال صلى الله عليه وسلم: ((فُـرّ من المجذوم كما تَفرّ من الأسد)) رواه
البخاري، والجذام مرض ينتقل بأسباب.
وقال صلى الله
عليه وسلم: ((لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)) رواه مسلم، يعني: لا يورد صاحب
إبلٍ إبلَهُ مريضة على صاحب إبلٍ إبلَهُ صحيحة.
وقال صلى الله
عليه وسلم: ((إِذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا
وَقَعَ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا)) صحيح أخرجه أحمد.
وهذا الحديث
دليل من دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عليه الصلاة والسلام بهذا
الحديث قد وضع نواة مبدأ (الحَجْرُ الصِّحي) الذي يعتبر مبدأً صحياً متأخراً، فمن
الذي علمه وهو النبي الأمي؟ إنه رب العالمين العليم الخبير الذي أرسله رحمة
للعالمين.
وخلاصة
العبرة: أن عبودية المؤمنين عند انتشار الوباء هي الأخذ
بالأسباب الواقية من المرض مع التوكل على الله، والائتمار بأمر الله، وانشراح
النفس وطمأنينتها بأنه لن يصيبها إلا ما كتب الله لها، واليقين بأن العدوى مجردُ
سببٍ تابعٍ لمشيئة الله، فالله هو مقدر الأقدار، ثم الحذر من الوقوع في هلع الذين
لا يؤمنون ولا يصلون: ((إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ
جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ
عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ))
وهذا الوجه من
الجمع بين النصوص الواردة في العدوى هو اختيار أئمة العصر الثلاثة: ابن باز وابن
عثيمين والألباني وغيرهم رحم الله الجميع.
اللهم إنا نعوذ بك من الشرور كلها . بارك الله لي ولكم في الكتاب
والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من المواعظ والحكمة ، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو
الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى , وقدَّر فهدى , وأخرج المرعى ، نعمُهُ
تترى , وفضله لا يُحصى , لا مُعطي لما منع ولا مانع لما أعطى , وكلُّ شيء عنده
بقدر وأجلِ مسمى .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الحكمةُ فيما قدّر
وقضى ، وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الأخشى لربه والأتقى ، صلى الله عليه وعلى
آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا ، أما بعد :
عباد الله
: العبرة الثالثة: دولٌ عظمى تفخر بقوتها وتقنياتها تعلن
إنذارات الخطر، وتعيش إجراءاتٌ مُشدَّدةٌ .. وتُعزلُ صِحيَّاً .. وتُقاطعُ
دوليَّاً .. ويرتبك العالم ويتنادى بالاستنفار؟ ما هذا العدو المشترك الذي أفزع
العالم؟
إنه مخلوق صغيرٍ
جِداً من مخلوقات الله .. فَيروسٌ لا يُرى بالعينِ المُجردةِ .. لا يرى إلا بعد أن
يكبر آلاف المرات، فَعلَ ما فعل بالعالمِ، في أيامٍ معدوداتٍ.
ذلك ... ليُعَرِّفَ
الربُّ العظيم سبحانه، البشريةَ بضعفها وعجزها ومحدودية قدراتها مهما تعاظمت في
أنفسها، فأصغر جنود الله يمكن أن يهزمها، ويطيح بكبريائها، ((فَلَا أُقْسِمُ بِمَا
تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ)) ((وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ
إِلَّا هُوَ))
جنديٌ متناهٍ في
الصغر، ليُعَرِّفَ الله البشرية أن الملكَ ملكه، والأمرَ أمره، والحكمَ حكمه،
والقضاءَ قضاؤه في هذا الكون، وأنه القاهر فوق عباده، لا شريك له، ولا رب سواه،
فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه سبحانه.
إنَّه درسٌ عظيمٌ ..
وتذكرةٌ وعِبرةٌ لمن له قلبٌ سليمٌ .. نفذ في الناس أمر الله: ((قُلْ مَن ذَا
الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ
بِكُمْ رَحْمَةً)) فـ ((لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن
رَّحِمَ))، ووقف العالم حائراً هَلِعاً بإلكترونياته وصناعاته وأجهزته وإمكانياتِه
الكبيرةِ، وتقنياته وكوادره وخِبراته وقُدراته العجيبة الهائلة، ((فَاعْتَبِرُوا
يَا أُولِي الْأَبْصَارِ))
العبرة
الرابعة: قالَ العظيم سبحانه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، فالخالق المدبر العليم
الخبير يخبرُ أنَّ المَصائبَ التي تنزل بالناس إنما هي بسببِ بعض أعمالِ البشرِ،
وأنه قد عفا أي ترك العقوبة على كثير من ذنوبهم.
وقال سبحانه:
((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) فانتشار هذه
الأوبئة عقوبة على بعض ذنوب الناس لا كل ذنوبهم، ((وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ
النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ))
فهل انتشار هذا
الوباء وغيره من الأوبئة الفتاكة في العالم، بسبب غلبة الكفر في البشر، أم هو
لعصوف موجات الإلحاد في الناس؟ أم بسبب الشرك وعبادة الأوثان؟ أم باستحلال الحرام
والإعلان بالفواحش والآثام؟ والتفلُّت من نظام شريعة الرحمن؟ أم هي بسبب الطغيان
والبغي وظلم المستضعفين وسفك دماء البريئين؟
كل ذلك أو بعضه جائز
أن يكون سبباً ((وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا))
قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ
الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ خِصَال إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى
يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ
تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا) الحديث، صحيح رواه ابن ماجه
فلنعتبر عباد الله
ولنقلع عن الذنوب والأوزار إن كنا نريد دفع البلاء ورفعه عنا، فسنن الله جارية على
جميع العباد.
اللهم إنا نعوذ بك من
الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من سيء الأسقام. اللهم إنا نعوذُ بك
من سُوء القضاء، ومن شماتة الأعداء، ومن درَك الشقاء، ومن جَهد البلاء. ربنا ظلمنا
أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفرنا ذنبنا كله دقه
وجله علانيته وسره وأوله وآخره، ربنا لا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا يا أرحم
الراحمين، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم زينا
بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ألف بين قلوبنا
وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور وجنبنا الفواحش ما
ظهر منها وما بطن وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا وتب
علينا إنك أنت التواب الرحيم واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها وأتمها
علينا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم ربنا ظلمنا أنفسنا
ظلماً كثيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لنا مغفرةً من عندك وارحمنا إنك
أنت الغفور الرحيم. لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.. اللهم إنا نسألك
بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا
يحي يا قيوم نسألك أن تغفر لنا وتغيثنا غيث الرحمة، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا
من القانطين ... اللهم يا من لا يملك إنزال الغيث غيره أسقنا وأغثنا .. اللهم
أغثنا غيثاً مغنياً سحاً غدقاً هنيئاً مريئاً نافعاً غير ضار اللهم سقيا رحمة...لا
سقيا بلاء ولا هدم ولا غرق.. اللهم أغثنا اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا وأغثنا غيثا
عاجلاً غير آجل تحيي به البلاد وتغيث به البلاد وتجعله بلاغاً للحاضر والباد،
اللهم أغث البلاد وانشر رحمتك على العباد واجعله بلاغاً للحاضر والباد يا حي يا
قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم لا تردنا خائبين ولا من رحمتك يائسين يا
رحمن يا رحيم . اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
|