تَحْرِيمُ الدِّمَاء
خطبة جمعة بتاريخ / 11-8-1436 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا وسيئات أعمالِنا ، من يهْدِه الله فلا مضلَّ له ، ومن يُضلِل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليلُه ، وأمينُه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه ، ولا شرًا إلا حذَّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعدُ أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلمُ أن ربه يسمعُه ويراه . وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون عباد الله : إن مما جاءت به الشريعة المباركة -شريعة الإسلام- تحريم الدماء والتهديد والوعيد في ذلك والتشديد في هذا الأمر ، ليس في دماء الآدميين فقط ! بل حتى في دماء البهائم ؛ عن المغيرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بنفر من الأنصار يرمون حمامة فقال عليه الصلاة والسلام : «لا تَتَّخِذُوا الرُّوحَ غَرَضًا» ، قد جاء في هذا المعنى أحاديث كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسلام ، فإذا كان الوعيد قد ورد في قتل بهيمة بغير حق فكيف بقتل الآدمي !! وكيف بقتل المسلم !! وكيف بقتل الرجل الصالح المتقي لله جل في علاه !! .
عباد الله : ولقد تكاثرت النصوص في كتاب الله عز وجل وسنة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في هذا الباب العظيم تحريم الدماء مبيِّنةً عظم هذا الجرم وخطورة هذا الأمر في آيٍ كثيرة وأحاديث عديدة عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ؛ قال الله تعالى : ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام:151] ، وقال جل وعلا : ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ [الفرقان:68-69] ، وهذا عباد الله يشمل قتل الذكر والأنثى، والصغير والكبير ، والحر والعبد ، والمسلم والكافر المعاهَد ، فكل هؤلاء يتناولهم عموم قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ .
أيها المؤمنون عباد الله : ولا يزال المسلم في عافيةٍ من أمره ما لم يُصِب دمًا حراما ، فإن أصاب دمًا حراما وقع في بليةٍ عظيمة ورزيةٍ جسيمة لا مخلَص له منها ؛ روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» ؛ أي أنه -عباد الله- إن أصاب دمًا حراما ضاق عليه الأمر ضيقًا شديدا ، حتى إنه لربما كان سببًا لمروقه من دين الله تبارك وتعالى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام ويدَعون أهل الأوثان ؛ قال عنهم عليه الصلاة والسلام : «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)) .
عباد الله : والدماء أمرها خطير ؛ فإن من قتل نفسًا واحدة معصومةً محرمة فقد وقع في أعظم ورطة ، جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا؛ سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ» ؛ فإنَّ من سفك الدم الحرام بغير حلِّه ورَّط نفسه ورطةً عظيمة لا مخرج له منها بخلاف سائر الذنوب ؛ فمن سرق -على سبيل المثال- له مخرج بأن يكتسب مالًا ويعمل على إعادة الأموال إلى أهلها طالبًا منهم العفو والمسامحة ، وقُل مثل ذلك في سائر الذنوب ، بينما من قتل نفسًا محرمةً معصومة فإنه يكون بذلك قد أزهق نفس من قتله وانتهت حياته ولم يبقَ إلا القصاص يوم القيامة ، ففي الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم قال : «يَجِيءُ المَقْتُولُ بِالقَاتِلِ يَوْمَ القِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، يَقُولُ: يَا رَبِّ قَتَلَنِي هَذَا» أي أنه يطلب القصاص .
هذا -معاشر المؤمنين- في قتل نفسٍ واحدة ؛ فكيف بمن قتل أنفسًا كثيرة ؟! وكيف -عباد الله- إذا كان قتْله للأنفس الكثيرة بقتله لنفسه معهم بآلات التفجير الحديثة ، وبتلك الأعمال التي تسمى «الأعمال الانتحارية» !! ألا ما أعظمها من جريمة وما أشده من جرمٍ آثم وخطيئة عظيمة يجرُّها لنفسه من يفعل ذلك ويورطها ورطةً لا مخلص له منها .
أيها المؤمنون عباد الله : وعندما تنتشر الفتن وتتزايد تُسترخَص الدماء ؛ فيقتل القاتل ولا يبالي بمن قتل أو كم قتل، لا يبالي بذلك كله لرخص الدماء في الفتن وعدم المبالاة بأمرها حتى مع الوقوف على النصوص والدلائل المجرِّمة لذلك والمحرِّمة له في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام .
ومن يقرأ التاريخ يجد في ذلك عِبَرا ؛ ومن ذلكم -عباد الله- ما خرَّجه الإمام أحمد في مسنده في قصة أولئك النفر من الخوارج ؛ دخلوا بلدةً كان فيها عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج ذعِرًا فزِعا ، فقالوا له لن تُرع ، قال :«لقد رعتموني والله» ، قالوا أنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: «نعم ، قالوا حدِّثنا حديثًا سمعته من أبيك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : «سمعت أبي يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذَكَرَ فِتْنَةً الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِيِ ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِيِ ، فَإِنْ أَدْرَكَتْكَ فَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ» ، قالوا له : أنت سمعت ذلك من أبيك يحدِّث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : «نعم» ؛ فأخذوه إلى جنب النهر وذبحوه كما تُذبح الشاة ، ثم ذهبوا إلى بيته وبقروا بطن أم ولده وهي حامل ، ثم مضوا . فانظروا معاشر المؤمنين كيف أن الفتنة إذا أشربتها القلوب لم يبالِ القاتل حتى وهو يسمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن ذلك أيضا : ما رواه البخاري في صحيحه أن نفرًا أتوا جندب بن عبد الله رضي الله عنه وطلبوا منه أن يوصيهم بوصية ؛ فأوصاهم وقال رضي الله عنه في وصيته : «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ» ولما كان هؤلاء ليسو صادقين لم يبالوا بهذه النصيحة ، بل ذكر أهل العلم أنهم على إثر ذلك خرجوا في الفتن وقتلوا الرجال والأطفال ووقع منهم بلاء عظيم .
أيها المؤمنون عباد الله : إن الواجب على المسلم ولاسيما مع تزايد الفتن أن يكون معظِّما للنصوص محترمًا لها قائمًا بتحقيقها خوفًا من الله ومراقبةً له جل في علاه ؛ فإن لم يكن كذلك تخطَّفته شبهات أهل الباطل ومسالك أهل الضلال وزيَّنوا له الإجرام وحسَّنوا له الآثام وهوَّنوا من شأن إراقة الدماء .
ومن آخر ما وقع من ذلك : الجريمة النكراء والفعلة الشنعاء التي أقدم عليها أحد الشباب الذين أشربوا بالفتنة في بلدة القديح ؛ عندما أقدم على تفجير نفسه في مثل هذا اليوم -يوم الجمعة- فأراق دماءً كثيرة وتسبَّب في إصابات جسيمة مهلكًا نفسه في تلك الفعلة النكراء .
وأرباب هذا الفكر الضال يعدُّون ذلك عملًا بطوليا ومغنمًا كبيرا ، وحقيقة الأمر -عباد الله- أنه ضرْبٌ من ضروب الإفساد في الأرض ، وهو جريمة نكراء وفعلة شنعاء لا يقرها كتاب ولا سنة ، بل هي مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومخالِفةٌ لإجماع العلماء ، بل هي مخالفة للفطرة السوية والعقل السليم.
نعوذ بالله العظيم من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، ونسأله جلَّ في علاه أن يحفظ على المسلمين أينما كانوا أمنهم وإيمانهم وإسلامهم وسلامتهم ، وأن يكتب لهم العافية ، إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلمُ أنَّ ربَّه يسمعُه ويراه .
أيها المؤمنون عباد الله : وإن من أوجب الواجبات في مثل هذا الزمن المحافظة على النشء والرعاية للشباب والصغار من أن تتسلل إليهم تلك الأفكار الآثمة والمسالك الخبيثة ؛ فإن أرباب تلك الأفكار يستهدفون صغار السن ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في وصفه للخوارج : «حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ»؛ وهذا فيه إشارة إلى أن أرباب هذا الفكر يستغلون حداثة سن الشاب وصغر حلمه وقلة درايته وعدم معرفته بالعواقب ليجعلوه أداةً ينفِّذون من خلاله إجرامهم وظلمهم وبغيهم .
ولهذا عباد الله يجب علينا أن نُعنى برعاية الصغار ، وأن نحذر أشد الحذر من الوسائل الحديثة التي أخذت تُدخل على النشء من الأفكار الخبيثة والمبادئ الهدَّامة والمسالك الملتوية الشيء الكثير .
نسأل الله الكريم الذي لا حول لنا ولا قوة إلا به أن يحفظ أبناءنا وأبناء المسلمين ، وأن يجنِّبنا وإياهم الفتن ، وأن يعيذنا منها بمنِّه وكرمه .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك اللهم من شرورهم ، اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك ، واجعل عمله في رضاك ، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكِّها أنت خير من زكّاها ، أنت وليُّها ومولاها . اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولولاة أمرنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125 |