حَقِيقَةُ التَّقْوَى
خطبة جمعة بتاريخ / 20-5-1435 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمَّدًا عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليله ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ؛ فصلوات اللهُ وَسَلامه عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعدُ أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه ؛ فإنَّ تقوى الله هي خير الوصايا وأعظمها وأجلَّها وأرفعها ، وهي وصية الله جل وعلا للأولين والآخرين من خلقه ، كما قال جل وعلا : ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء:131] .
أيها المؤمنون عباد الله : إن تقوى الله جلَّ وعلا هي الأساس الذي تدور عليه سعادة العبد في الدنيا والآخرة ، وبها ينال شريف المواهب ، وينال بها رفيعُ المقامات وجليل المنازل وخير المناقب ؛ جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل للرسول صلى الله عليه وسلم «من خير الناس ؟» قال : ((أتقاهم)) . وهذا معنى مقررٌ في كتاب الله جل وعلا ؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13] .
روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي نَضْرَةَ رضي الله عنه قال : حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى ، أَبَلَّغْتُ ؟)) قَالُوا : «بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، ثُمَّ قَالَ عليه الصلاة والسلام : ((أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ ، قَالَ ثُمَّ قَالَ : أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، أَبَلَّغْتُ ؟)) قَالُوا «بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، قَالَ : ((لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)) .
أيها المؤمنون عباد الله : وليحذر كل إنسان من أن يخِلَّ بهذا المعيار وأن تنقلب عنده الموازين ؛ فإن أساس الرفعة وأساس الشرف وعلو الفضيلة والمنقبة إنما هو بتقوى الله تبارك وتعالى ، جاء في المسند وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ؛ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ ، النَّاسُ بَنُو آدَمَ ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ)) .
معاشر المؤمنين : إن تقوى الله جل وعلا رأس كل فضيلة ، وأساس كل خير وسعادة في الدنيا والآخرة ؛ وقيام تقوى الله على توحيد الله وإخلاصِ الدين له جل وعلا وإفراده وحده جل وعلا بالعبادة ، ﴿ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾ [النحل:52] ، ويقول الله جل وعلا: ﴿ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [المدثر:55-56] ؛ فهو جل وعلا أهلٌ أن يتقى ، أهلٌ أن يُخشع له ويذل ، أهلٌ جل وعلا أن تُصرف له العبادة وأن يُصرف له الذل والخشوع دون أن يُجعل معه تبارك وتعالى شريكٌ في شيء من ذلك ، يقول الله عز وجل في وصف الصحابة الكرام وبيان منقبتهم العلية ومنزلتهم الرفيعة : ﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ [الفتح:26] ؛ جاء في المسند من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ قول الله عز وجل ﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ وقَالَ: ((هي «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» )) ، وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾: شهادة أن لا إله إلا الله ؛ فإنها رأس كل تقوى» .
نعم أيها المؤمنون عباد الله : لا يكون العبد من المتقين إلا إذا حقق هذه الكلمة العظيمة علمًا بمعناها وفهمًا لمدلولها وتحقيقًا لما دلت عليه من توحيد الله ووجوب الإخلاص له جل في علاه ، يقول الله تعالى: ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾ [النحل:1-2] ؛ فدل ذلكم -عباد الله- على أن سبب التقوى الذي به تتحقق ولا تحقُّق لها إلا به هو توحيد الله جل وعلا ، وتأملوا هذا المعنى في أول أمرٍ في القرآن الكريم وهو قول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة:21] ؛ أي أن عبادة الله وإخلاص الدين له وإفراده وحده بالعبادة هو سبب التقوى ووسيلة تحقيقها ، ومن لم يكن من أهل لا إله إلا الله، من لم يلزم لا إله إلا الله تحقيقًا لها ولما دلت عليه من توحيد الله لم يكن من أهل التقوى .
أيها المؤمنون عباد الله : والقرآن الكريم جاءت فيه آيات متعددات شارحةً معنى التقوى مفسرةً مدلولها مبينةً صفات أهلها ، ومن ذلكم عباد الله :
§ قول الله تبارك وتعالى في أول سورة البقرة: ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2 ) ﴾ ثم ذكر تبارك وتعالى صفاتهم قال : ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة:2-4]
§ ويقول الله تبارك وتعالى : ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) ﴾ ثم ذكر تبارك وتعالى صفاتهم قال : ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران:133-135] ؛ فذكر من صفاتهم ملازمة الاستغفار وعدم الإصرار على الذنوب .
§ أيها المؤمنون عباد الله : ومن الآيات العظيمة الجامعة لمعنى التقوى وبيان صفات أهلها قول الله عز وجل في سورة البقرة في الآية التي تُعرف عند أهل العلم بآية البر ، قال الله تعالى : ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة:177] ؛ فذكر عز وجل أن من صفات المتقين صلاح عقيدتهم وصلاح أعمالهم.
أيها المؤمنون عباد الله : وأساس التقوى الذي عليها قيامه هو القلب ؛ فإذا عمَر القلب بتوحيد الله استقامت الجوارح على عبادته وامتثال أوامره جل في علاه ، ولهذا جاء في الحديث العظيم أن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أشار إلى صدره ثلاث مرات وقال : ((التَّقْوَى هَاهُنَا)) ؛ أي أن القلب هو منبعها ومصدرها ، فإذا استقام القلب على تقوى الله توحيدًا وإخلاصًا وصدقًا ويقينًا استقامت الجوارح ، يقول صلى الله عليه وسلم : ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ)) ، وهذا المعنى قرره أيضا صلوات الله وسلامه عليه في قوله صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)) ، وقدَّم القلوب لأنها أساس الأمر صلاحًا أو فسادا .
أيها المؤمنون عباد الله : ما أعظم عواقب المتقين وما أجمل مآلاتهم في دنياهم وأخراهم ،كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه:132] .
وكم للتقوى -أيها المؤمنون- من الفضائل والآثار والثمار المتعددة التي يجنيها أهل التقوى في دنياهم وأخراهم ، ومن ذلكم عباد الله :
% أن تقوى الله عز وجل سبب لتفريج الكربات وتنفيسها وتيسير الأمور ؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4] ، وقال جل وعلا: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [الليل:5-7].
% ومن ثمار التقوى أيها المؤمنون عباد الله : أنها سببٌ لحلول البركات ونيل الأرزاق كما قال الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق:2-3] .
% ومن ثمارها عباد الله أنها سببٌ لرفعة الدرجات ونيل الأجور وتكفير الخطايا كما قال جل وعلا: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ [الطلاق:5] .
% ومن ثمارها عباد الله : الفوز برضوان الله ودخول الجنات والنجاة من النار كما قال الله سبحانه: ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴾ [النبأ:31-32] ، وقال جل وعلا : ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ [القلم:34] ، وقال جل وعلا : ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر:54-55].
نسأل الله جل في علاه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبأنه الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا أجمعين من عباده المتقين وأوليائه المقربين ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أمَّا بعدُ أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإنَّ في تقوى الله خلَفًا من كل شيء ، وليس من تقوى الله خلَف.
أيها المؤمنون عباد الله : يظن كثير من الناس أن تقوى الله جل وعلا إنما هي فيما يتعلق بمعاملة العبد مع ربه جل في علاه ، ويغفل كثير منهم أن التقوى كما أنها تتعلق بالمعاملة بين العبد وربه فإنها كذلك تتعلق بالمعاملة بينه وبين العباد ؛ فكما أن العبد مطلوبٌ منه أن يتقي الشرك وأن يتقي كل عملٍ يسخط الله جل وعلا فإنه مطلوب منه كذلك أن يتقي كل أمرٍ فيه ظلم للعباد وتعدٍ عليهم سواء في أموالهم أو أعراضهم أو أنفسهم ؛ فإن ذلك -عباد الله- من تحقيق التقوى ولابد منه في تحقيقها .
نعم عباد الله : إن تقوى الله جل وعلا تتطلب من العبد علمًا بهذه الأمور ومعرفةً بهذه المعاني ليكون من المتقين ، وقد قال بعض السلف قديمًا: «كيف يتقي من لا يدري ما يتقي» . وليحذر كل إنسان من أن يزكي نفسه بأنه من المتقين ويكون مفرطًا ظالمًا معتديًا متجاوزا لحدود الله والله جل وعلا يقول : ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم:32] .
عباد الله كتب رجلٌ مستنصحًا إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «اكتب لي بالعلم كله» ، قال : «إن العلم كثير ، ولكن إن استطعت أن تأتي يوم القيامة خفيف الظهر من دماء المسلمين ، خميص البطن من أموالهم، كافَّ اللسان عن أعراضهم ، لازمًا لجماعتهم فافعل» ؛ فجمع رحمه الله ورضي عنه في كلمته هذه خلاصةً عظيمة وزبدةً مهمة في تحقيق تقوى الله فيما يتعلق بمعاملة العبد مع عباد الله .
أيها المؤمنون عباد الله: لنجاهد أنفسنا على تحقيق تقوى الله عز وجل ، ولنراقب أنفسنا ولنحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الله جل وعلا ؛ فإن الكيِّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكر الصدِّيق ، وعمر الفاروق ، وعثمان ذي النورين ، وأبي الحسنين علي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى ، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقَّه وجلَّه ، أوَّله وآخره ، علانيته وسرَّه ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من خطب الشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125 |