حديث نبوي جامع في انتظام مصالح المسلمين
الحمد لله القوي المتين ، الحقِ المبين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ قيوم السماوات والأرضين، وخالق الخلق أجمعين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين ومعلماً للأميين بلسان عربي مبين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، ما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه ولا شراً إلا حذرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإن في تحقيق تقواه طِيب الحال وحُسن العاقبة والمآل قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:70-71] .
أيها المؤمنون : إن النعمة علينا عظيمة والمنة جسيمة بالهداية لهذا الدين القويم ، الدين المبارك ، دين الله جل وعلا الذي ارتضاه لعباده ديناً ولا يقبل منهم دينا سواه ، ومن بركات هذا الدين وخيراته العظام أن جاء لعباد الله المؤمنين بتوجيهات كريمة وإرشادات قويمة تنـتظم بها مصالحهم ، وتأتلف قلوبهم ، ويلتئم شعثهم ، وتتحقق مصالحهم ، وتقوى شوكتهم ، وتعظم هيبتهم ، وتزول عنهم المحنُ والرزيّات وأنواع الفتن والبليات ؛ فلله الحمد أولاً وآخرا وله الشكر جل وعلا ظاهراً وباطنا على ما منّ به وتفضل .
عباد الله : وليس شيءٌ من تلك المصالح العظام والخيرات المباركات الجسام متحققاً لعباد الله المؤمنين إلا بلزوم توجيهات الدين القويمة وإرشاداته العظيمة التي تحقق لأمة المسلمين وجماعة أهل الإسلام مصلحتهم وسعادتهم وفلاحهم في دنياهم وأخراهم وتحقق لهم أمنهم وطمأنينتهم .
أيها المؤمنون : وهذه وقفة مع حديث عظيم ثابت عن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام فيه توجيهات للأمة ؛ بتحقيقها يتحقق للأمة عزها وقوتها وهيبتها وشوكتها ، وبتضييع تلك التوجيهات والإرشادات يضيع أمر الناس ويختل أمنهم وتسودهم الفوضى والضياع .
روى الإمام مسلم في كتابه الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ )) .
أيها المؤمنون : هذه ثلاث وصاياً عظيمة ثابتة عن نبينا الكريم - عليه الصلاة والسلام - بتحقيقها علماً وعملا يتحقق العز ، وتتحقق السعادة ، وينتظم أمر المسلمين ، وتصلح حالهم بإذن الله، وبتضييعها تضيع الأمور ويختل الأمن وتعم الفوضى وتؤول حالهم إلى أسوأ حال :
الوصية الأولى - عباد الله - : السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين ، وعدم نزع اليد من الطاعة أو الخروج على إمام المسلمين أو مفارقة جماعة المسلمين ؛ فإن مثل هذه الأعمال تؤول بصاحبها إلى الضياع التام (( مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً )) ، وصْف من كانت هذه حاله بالجاهلية : لأن أمر الجاهلية كان فوضى ، والذي يحكمهم ويسودهم شريعة الغاب ؛ لا يسمعون لأمير ولا يلزمون جماعة ؛ ولهذا تعمهم الفوضى ويكثر فيهم السلب والنهب ، ولا يطمئن ذا مال على ماله وذا عرض على عرضه وذا تجارة على تجارته ، بل القوي يأكل الضعيف وتعم الفوضى أرجاء الأرض كما كانت في حال الجاهلية ؛ ولهذا - عباد الله - يجب علينا أن نتخذ الإمارة ديناً وقربة نتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى ونسمع ونطيع للأمير طاعةً لله وطلباً لرضاه - سبحانه - وتحقيقا لمصلحة الأمة أمة الإسلام ؛ لأنه لا إسلام إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بأمير ، ولا أمير إلا بسمع وطاعة ، فإذا خرج الإنسان من الطاعة وفارق الجماعة ذهبت تلك المصالح كلها .
كيف - أيها المؤمنون - يتحقق للمؤمنين أمنٌ بدون إمارة وأمير وجماعة !! كيف تقام الصلاة ويجتمع المسلمون في المساجد وكيف تقام معاقل العلم وكيف تتحقق المصالح بحال أناس فوضى لا ينضوون تحت راية ولا يجتمعون تحت أمير !! ؛ ولهذا عباد الله يجب على المسلم أن يتخذ هذا الأمر ديناً يدين الله به وقربة يتقرب به إلى الله عز وجل ولا تكون حاله كمن قال عنه عليه الصلاة والسلام :(( مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً )) ومن الذي يرضى لنفسه أن يفارق هذه الحياة ميتاً - والعياذ بالله - ميتة جاهلية ؟!
والوصية الثانية - أيها المؤمنون - في هذا الحديث العظيم المبارك : تحقيق الأخوة الإيمانية والرابطة الدينية ، والبعد -أيها المؤمنون- عن العصبيات المحمومة والنَزعات العِرقية والتجمعات الباطلة والتجمهرات الزائفة التي يجمعها ويدعو إليها ويبعث إلى إيجادها إما تعصبات مذمومة أو نزعات عرقية أو أهواء وأطماع أو نحو ذلك من المقاصد والأهداف ، ومن انخرط في مثل هذا الطريق و في مثل هذا التجمهر والتجمع (( فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ )) كما قال - عليه الصلاة والسلام -. فليحذر عبد الله المؤمن من مثل هذه المسالك ومن مثل هذه الطرائق .
والوصية الثالثة - أيها المؤمنون - : حفظُ وحدة المسلمين والمحافظة على مكتسباتهم ، ومراعاة حرماتهم ، وعدم إخفارِ ذِمَمِهِم ، وعدم التعرض لأحد منهم بأي نوع من الضرر أو أي نوع من الأذى ، ومن لم يكن كذلك فخرج - والعياذ بالله - على المسلمين يضرب برَّهم وفاجرهم ولا يتحاشى من مؤمنهم ولا يفي لذي عهد عهده فالنبي - عليه الصلاة والسلام - منه براء ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :(( فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ )).
أيها المؤمنون : إن هذه التوجيهات المباركات ينبغي أن يودعها المسلم قلبه ، وأن يحفظها، وأن يحافظ عليها ، وأن لا يوجد في قلبه تجاهها أي سخيمةٍ أو غلٍّ أو كراهيةٍ أو عدم رغبة .
فهذه -أيها المؤمنون- توجيهات وإرشادات النبي عليه الصلاة والسلام ، والمؤمن -عباد الله- إذا قوي إيمانه وصح إسلامه وحسنت صلته بربه جل وعلا وتجرد من الأهواء أقبل على هذه التوجيهات بانشراح صدر وبُعد عن الغل والحقد والضغائن والأهواء ؛ ولهذا ثبت في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ثَلَاثٌ لَا يَغِل عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ : إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ عز وجل ، وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ )) ؛ وتأمل - رعاك الله- قول النبي عليه الصلاة والسلام : (( لَا يَغِل عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ )) أما إذا ضعف الإيمان ورق الدين فإنه يتحول إلى القلب بدل هذه المعاني العظيمة غل وحقد وحسد وأهواء وأغراض أخرى تودي بصاحبها إلى الهلاك .
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا أجمعين لحسن الإتباع لهدي نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأن يوفقنا للزوم جماعة المسلمين والسمع والطاعة لأميرهم ، وأن يعيذنا من الأهواء والبدع وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله عظيم الإحسان ، وأشهد ن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، واعلموا - رعاكم الله - أن قيام هذا الدين على النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم كما قال صلى الله عليه وسلم :(( الدِّينُ النَّصِيحَةُ ، قُلْنَا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ )) . والمسلم - عباد الله - بما أكرمه الله جل وعلا به من ديانة ، وبما هداه إليه من لزوم لهدي النبي صلى الله عليه وسلم فإن قلبه لا ينطوي إلا على الخير ولا يقوم فيه إلا النصح لله جل وعلا ولكتابه سبحانه ولرسوله عليه الصلاة والسلام ولأئمة المسلمين وعامتهم .
أيها المؤمنون : وإن من النصيحة للولاة ؛ عدمُ سبِّهِم ، وعدمُ الافتياتِ عليهِم ، وعدم نزع اليد من طاعتهم وقد قال - عليه الصلاة والسلام- : (( لا تسبوا أمرائكم )) حديثٌ ثابتٌ عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ؛ ولكن على المسلم أن يقبِل على الله عز وجل بنصحٍ وإيمانٍ وصدقٍ أن يصلح أحوال المسلمين رعاة ورعية ، وأن يوفقهم أجمعين لما فيه سعادتهم وفلاحهم في دنياهم وأخراهم ، وأن يخص ولي أمرهم لأن بصلاحه صلاح الناس ، يخصه بدعوات صادقات أن يوفقه الله وأن يسدده وأن يعينه وأن يشد من أزره وأن يعينه على ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين .
ولقد كان السلف -رحمهم الله- يقول الواحد منهم في هذا المقام : " لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان " ؛ يدركون عظم فائدة هذا الأمر وكبر عائدته .
فعلينا عباد الله أن نكون في هذا الباب وفي كل باب محققين ما ننال به رضا مولانا سبحانه وتعالى ناصحين لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
هذا وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا )) ؛ اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين ، الأئمة المهديين ؛ أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين ، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين ، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك ، واجعل عمله في رضاك وأعنه على طاعتك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام . اللهم وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم . اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك واتباع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، واجعلهم رحمةً ورأفةً على عبادك المؤمنين .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولها . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم أصلح ذات بيننا ، وألف بين قلوبنا ، واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا واجعلنا مباركين أينما كنا .
اللهم فرج هم المهمومين ونفس كرب المكروبين ، اللهم فرج هم المهمومين ونفس كرب المكروبين ، اللهم فرج هم المهمومين ونفس كرب المكروبين ، اللهم واقض الدين عن المدينين ، اللهم واقض الدين عن المدينين ، اللهم واقض الدين عن المدينين ، اللهم واشف مرضانا ومرضى المسلمين وارحم موتانا وموتى المسلمين ، اللهم وأصلح أمرنا يا حي يا قيوم أجمعين ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ .
|