سورة الكهف يوم الجمعة
الحمد لله : } نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، } وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا{
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، بعثه رحمة لخلقه ، وأرسله نعمة لعباده ، وخاطبه بقوله : } وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا { صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصية الله لنا ولمن كان قبلنا ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ عباد الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
يحرص أكثر المسلمين ، على قراءة سورة الكهف يوم الجمعة ، فقلما تجد مسلما إلا ويدرك أهمية قراءة هذه السورة الكريمة في هذا اليوم العظيم ، بل بعضهم من كثرة قراءته لها صار يحفظها عن ظهر قلب ، وهنيئا له ذلك ، فسورة الكهف في يوم الجمعة لها ميزة خاصة عند كثير من المسلمين ، وخاصة الذين يحرصون على التبكير للحضور للمساجد ، ليحصلوا على الأجر المترتب على التبكير ، وليتمكنوا من قراءة هذه السورة العظيمة .
ولا شك ـ أيها الأخوة ـ أن لقراءة هذه السورة في ذلك اليوم ، ميزة شرعيه ، فقد ميزها U عن باقي سور القرآن ، وجعل لمن قراءها في هذا الوقت ، أجرا عظيما ، وفضلا كثيرا ، يحرم منه الكسالى ، الذين تشغلهم شهواتهم ، وتلههم ملذاتهم ، بل ويثبطهم الشيطان ، فلا يأتون إلا قبيل الخطبة أو مع بدايتها ، بل بعضهم لا يأتي إلا في نهاية الخطبة ، فلا يدرك إلا فقط الصلاة ، فيفوت عليه أجر التبكير للجمعة ، وفضل قراءة سورة الكهف .
أيها الأخوة المؤمنون :
فهنيئا لمن حرص على التبكير وتمكن من قراءة هذه السورة فقد أخرج الحاكم في مستدركه ،عن أبي سعيد الخدري t أن النبي e قال : (( إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين )) ويقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ : وبلغنا أنه من قرأ سورة الكهف وقي فتنة الدجال ، وأحب قراءة الكهف ليلة الجمعة ويومها لما جاء فيها .
أيها الأخوة المؤمنون :
ولقد خص الله U هذه السورة ، بهذا الفضل لعباده ، ليحرصوا على قراءتها في كل أسبوع على الأقل مرة واحده ، لما فيها من المواعظ والعبر ، فهي عبارة عن أربع قصص في كل واحده منها عبرة وموعظة ، وكما قال تعالى : } فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ { .
الأولى : أيها الأخوة ، قصة أهل الكهف ، الذي سميت به هذه السورة ، وهم مجموعة من الشباب ، تميزوا بإيمانهم بربهم ، والدعوة إليه سبحانه ، وقد عاشوا بين أناس يحكمهم ملك ظالم ، طاغوت من الطواغيت ، فدعوا الناس ولكنها رفضت دعوتهم ، يقول U : } إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ، هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا { .
فلم يجدوا استجابة ، ولم تثمر دعوتهم بين قومهم ، إنما كذبوا واضطهدوا ، فأوحى الله U إليهم أن يأووا إلى الكهف : } فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا { فأووا إلى كهفهم ، ومكثوا فيه كما قال تعالى : } وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا { وكانت فترة وجودهم في الكهف معجزة من المعجزات ، وحالهم آية من الآيات ، كما قال U : } وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ { وكما قال سبحانه : } وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا { وكل هذه المعجزات ـ أيها الأخوة ـ كانت لأجل الحفاظ على هؤلاء الفتية ، حتى استيقظوا بعد هذه الفترة الطويلة ، وذهبوا إلى قريتهم فوجدوا أن الناس قد آمنوا جميعهم .
أيها الأخوة :
وأما القصة الثانية ، فهي قصة تبين عاقبة كفر النعم ، ونتيجة الغرور بالمال ، فهذا رجل أنعم الله U ولكنه نسي المنعم ، وطغى وتجرأ على ثوابت الإيمان ، فيخبرنا U عنه بقوله : } وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا{ إلى أن يقول تبارك وتعالى عن كافر النعم ، الجاحد لفضل الله وقدرته : } وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا { فغره ما أنعم الله U به عليه ، } قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا { كحال بعض الناس ، يعتقد أنه مخلد في هذه الدنيا ، باق له ما يملك من أموال ، مستبعد للموت ، شاك بالبعث ، ضامن للجنة !
فما كان من صاحبه المؤمن ، إلا أن يسدي له النصح ، محذرا وزاجرا له من أفكاره ومعتقداته ، ومن كفره وجحوده : } قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا { ولكنه تمادى بغروره وطغيانه ، فكانت نهايته كما قال U : } أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا { فلقنه الله U درسا لن ينساه ، وجعله موعظة لغيره ، من هؤلاء الذين تخدعهم أفكارهم ، وتغرهم معتقداتهم ، ويزداد تعلقهم بهذه الدنيا يوما بعد يوم ، ولذلك قال U بعد هذه الآيات : } وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا { هذه حقيقة الحياة يا عباد الدنيا ! هذه حقيقة الحياة الدنيا ، يا من تؤثرونها على الآخرة ، فاحذروا كل الحذر ، واشكروا الله U على ما أنعم به عليكم ، وتذكروا أن وراءكم حساب ، فإما ثواب وإما عقاب .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، واشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
وأما القصة الثالثة ، فهي قصة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مع الخضر ، عندما سأله قومه : عن أعلم أهل الأرض ، فظن أنه هو ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ فأوحى الله U إليه أنه يوجد من هو أعلم منك ، فذهب يبحث عنه ، حتى وجده ، كما قال ـ تبارك وتعالى ـ } فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا { فصاحبه برحلة عجيبة مملوءة بالدروس والعبر والحكم ، فالسفينة التي خرقها لتبقى لأهلها ، وتسلم من الملك الظالم ، والغلام الذي قتله ، لكي لا يرهق أبويه المؤمنين لعصيانه وعقوقه ، والجدار الذي أقامه من غير أجر ، ليحفظ كنز الغلامين اليتيمين ، وذلك ليعلم المؤمن ، بأن الله U حكيم خبير ، يقدر الأمور لحكم يعلمها سبحانه .
وأما القصة الأخيرة ، فهي قصة ذي القرنين ، ذلك الملك العادل ، الذي مكنه الله U في الأرض ، كما قال تعالى : } إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا { فكان يطوف بالأرض من شرقها إلى غربها ، لينشر الهداية للناس ، ويملأها عدلا وإحسانا .
أيها الأخوة :
إن هذه القصص في هذه السورة ، التي يستحب أن يقرأها المسلم ، على الأقل في الأسبوع مرة واحده ، تتحدث عن فتن أساسية في حياة الناس : فتنة الدين ، وفتنة المال ، وفتنة العلم ، وفتنة السلطة ، فقد يجتهد الشيطان ويوقع المسلم بإحدى هذه الفتن ، ولذلك حذر الله منه ، في وسط هذه السورة فقال : } وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا { .
فعلى التحذير من الفتن ، تدور آيات هذه السورة الكريمة ، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عنه e : (( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)) وفي الحديث الآخر الذي رواه مسلم ـ رحمه الله ـ يقول e : (( من أدركه منكم ـ يعني الدجال ـ فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
وقد أشارت آيات هذه السورة إلى أهمية الصحبة الصالحة : } وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ { وإلى عدم التعلق بالدنيا ، وأهمية التواضع والإخلاص.
اسأل الله U أن يجعلني وإياكم من أهل كتابه ، الذين يتلونه حق تلاوته ، فيقيمون حروفه وحدوده ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ، وجلاء همومنا وغمومنا ، ونور أبصارنا ، وهدايتنا في الدنيا والآخرة . اللهم ذكرنا منه ما نَسينا ، وعلمنا منه ما جهلنا . اللهم ارزقنا تلاوته على الوجه الذي يرضيك عنا آناء الليل وأطراف النهار ، يا رب العالمين ! اللهم اجعلنا ممن يقيم حروفه وحدوده ، ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده . اللهم اجعله شاهداً لنا ، واجعله شفيعاً ، يا رب العالمين !
اللهم ارزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا سحا غدقا مجللا ، عاجلا غير آجل ، غيثا تغيث به البلاد والعباد ، وتنفع به الحاضر والباد ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|