الناهية للقلوب اللاهية
الحمد لله المطلع على الظواهر والأسرار ، العزيز الغفار ، القوي الجبار ، المتفرد بالإيجاد والاختيار .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، يرحم من قصد جنابه ، ويقرب أولياءه وأحبابه ، ويفتح للتواب أبوابه ، يجبر الكسير ويغني الفقير ويغفر الأوزار . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، شهادة أدخرها ليوم لا تنفع فيه الأعذار .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، المصطفى المختار ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد عباد الله :
اتقوا الله U ، } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ { فاتقوا الله ـ يا عباد الله : } وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً { و } يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً { و } يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين
أيها المسلمون :
يقول تبارك وتعالى في سورة الأنبياء : } اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ ، مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ { يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره : هذا تنبيه من الله U ، على اقتراب الساعة ودنوها ، وأن الناس في غفلة عنها ، أي لا يعملون لها ، ولا يستعدون من أجلها . ويقول القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره : } اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ { أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه على أعمالهم. } لِلنَّاسِ { قال ابن عباس : المراد بالناس هنا المشركون. وقيل: الناس عموم . وذكر القرطبي أن رجلا من أصحاب رسول الله e كان يبني جدارا فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة ، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل } اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ { فنفض يده من البنيان ، وقال : والله لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب.
أيها الأخوة المؤمنون :
عندما نتأمل أسباب غفلة هؤلاء الناس ، الذين اقترب حسابهم ، الذين قرب موعد مجازاتهم بأعمالهم السيئة ، الذين حان عذابهم ، كما قال الضحاك : } اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ { أي عذابهم . عندما نتأمل أسباب غفلة هؤلاء ـ أيها الأخوة ـ المعرضون الذين لا تأثر بهم الآيات ولا الأحاديث ، الذين يستمعون لأدلة الكتاب والسنة وهم يلعبون ، نجد أن الله U أشار إلى أن المشكلة تكمن في قلوبهم ، فقال تعالى : }لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ { وصدق صلوات ربي وسلامه عليه : (( وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب )) والحديث رواه البخاري .
فالقلب إذا صلح ، صلح الجسد كله : صلحت العين ، صلحت ألأذن ، صلح اللسان ، صلح البطن ، صلح الفرج ، صلح الجسد كله ، أما ـ والعياذ بالله ـ إذا فسد هذا القلب ، فإن الجسد كله يفسد ، تفسد العين فتنظر إلى الحرام ، وتفسد الأذن فتسمع الحرام ، وكذلك اللسان والبطن والفرج وغير ذلك ـ بشهادة النبي e ـ
أيها الأخوة المؤمنون :
فلهو القلوب مصيبة عظيمة ، وكارثة خطيرة ، تؤدي بأعمال الإنسان الصالحة ، وتفوت عليه مستقبله الحقيقي ، وتجعله يعرض عن هدف إيجاده ، وينشغل بما يتسبب في ضياعه وانحرافه وفساده ، إذا لهى قلب الإنسان ـ أيها الأخوة ـ أنشغل بما لا يفيده ، بل بما يكون وبالا عليه ، وسببا في دخوله النار والعياذ بالله . إنه ـ أيها الأخوة ـ كما سمعتم بالآيات الكريمة ، يقترب من أجله وحسابه ومجازاته بأعماله ، وهو في تمام غفلته ، وقمة إعراضه ، هو على العكس تماما مما ينبغي له ، ومما يجب عليه .
عمر بن عبد العزيز ، عد خامسا للخلفاء الراشدين ، وعرف عنه ورعه وزهده ، وشهد له باستقامته وصلاحه ، وهو في بداية حياته ، عرف بترفه ، ولكنه في نهاية عمره ، وعندما أنعم الله عليه بنعمه ، وصار خليفة عرف بالرجل الزاهد ، والمسلم العابد ، يقول رجاء بن حيوه : امرني عمر بن عبد العزيز أن اشتري له ثوبا بستة دراهم فأتيته به فجسه وقال:
هو ما أحب لولا أن فيه لينا ! قال رجاء : فبكيت قال:فما يبكيك ؟ قلت:أتيتك وأنت أمير بثوب بستمائة درهم فجسسته وقلت:هو على ما أحب لولا أن فيه لينا ! فقال عمر :يا رجاء إن لي نفسا تواقة ، تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها ، وتاقت إلى الإمارة فوليتها ، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها ، وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها إن شاء الله U .
أخي المسلم ، عبد الله ! إلى أي شيء تتوق نفسك الآن ، تاقت إلى الوظيفة فتوظفت ، تاقت إلى السكن فسكنت ، تاقت إلى شراء سيارة فاشتريت ، تاقت إلى زوجة فتزوجت ، الآن إلى أي شيء تتوق نفسك ؟ أإلى الجنة ؟ اسأل الله U ذلك .
إذا كانت نفسك تتوق إلى الجنة ـ يا عبد الله ـ فلتحذر أن تكون من اللاهية قلوبهم ، الذين يقترب حسابهم وهم في غفلة عن الآخرة ، لاهم لهم إلا هذه الدنيا بزخارفها وزينتها وحطامها ، أياي وإياك ـ أخي ـ أن تقع بما وقع به من وصف الله قلوبهم باللاهية ،الذين : } هُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ ، مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ {.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
إن السعيد من وعظ بغيره ، و من عرف طريق الهالكين وتجنبه ، السعيد من تأمل أعمال الأشقياء وابتعد عنها ، فلنتأمل ـ أيها الأخوة ـ حال من وصفهم الله بذلك الوصف الشنيع ، الذين هم في غفلة وإعراض : } مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ { إنهم أناس أنعم الله U عليهم بنبي كريم ، ينزل عليه الوحي من رب العالمين ، يخاطبهم بما يضمن لهم سعادة دنياهم وآخرتهم ، بل منهم من وجه الله U إليه الخطاب مباشرة : } تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ، سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ { وكذلك زوجته الحقيرة } وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ { فهؤلاء ينبغي للمسلم أن يحذر أعمالهم ، وأن يجتب ما كانوا عليه مخالفا لكتاب ربهم U وسنة نبيهم e .
أيها الأخوة :
إن هؤلاء ، الذين حذرنا الله U ، أن نكون مثلهم ، أعرضوا عن كتاب ربهم ، وانشغلوا بنظم الأشعار ، والفخر بالأحساب والطعن بالأنساب ، ومفاخر الآباء والأجداد ، واللهو واللعب و تركوا أمر الله U ورسوله e وراء ظهورهم .
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وحاسبوا أنفسكم ، واعملوا على سلامة قلوبكم ، وتمسكوا بكتاب ربكم ، وعضوا بالنواجذ على سنة نبيكم .
اسأل الله لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك مغفرة ذنوبنا وستر عيوبنا وتنفيس كروبنا ، وسداد ديوننا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة عبادك الصالحين يارب العالمين .
اللهم إنا نعوذ بك من جَهد البلاء ، ودَرَك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء ، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك ، وتحول عافيتك ، وفُجاءة نقمتك ، وجميع سخطك.
اللهم إنا نسألُكَ الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرشد ، ونسألكَ شكرَ نعمتك ، وحُسن عبادتك ، ونسألك قلوبًا سليمة ، وألسنةً صادقة ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك لما تعلم.
اللهم } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .