رجل من أهل الجنة
الخطبة الأولى
الحمد لله ، الذي له الكمال والدوام ، والعز الذي لا يرام ، } اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه :
لك الحمد ياذا الجود والمجد والعلى
تباركت تعطي من تشاء وتمنع
إلهي وخلاقي وسؤلي وموئلي
إليك لدى الإعسارِ واليسرِ أفزعُ
إلهي أجرني من عذابك إنني
أسيرٌ ذليلٌ خائفٌ لكَ أخضعُ
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد عباد الله :
اتقوا الله U ، فتقوى الله ، وصية الله لكم ولمن كان قبلكم : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ { فاتقوا عباد الله ، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
روى الإمام أحمد في مسنده ، عن أنس بن مالك t أنه قال : كنا جلوساً مع الرسول r فقال: (( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة )) ، فطلع رجل من الأنصار ، تنطف لحيته من وضوئه ، قد تعلق نعليه في يده الشمال ، فصلى ما صلى ثم خرج ، فلما كان الغد ، قال النبي r مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى ، فلما كان اليوم الثالث قال النبي r مثل مقالته أيضاً ، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى ، فلما قام النبي rتبع الرجلَ عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ فقال : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت . فقال : نعم . قال أنس : وكان عبد الله يحدث : أنه بات معه تلك الليالي الثلاث ، فلم يره يقوم من الليل شيئاَ ، غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ، ذكر الله U وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً . فلما مضت الثلاث ليال ، وكدت أن أحتقر عمله ، قلت : يا عبد الله ؛ إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله r يقول لك ثلاث مرار (( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة )) فطلعت أنت الثلاث مرار ، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به ، فلم أرك تعمل كثير عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله r ؟ فقال الرجل : ما هو إلا ما رأيت !غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه .ـ تأملوا صفات رجل من أهل الجنة ، يقول : لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه.
فقال عبدالله بن عمرو : هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق ))
عباد الله :
ما أحوجنا ـ والله ـ لمثل هذا الحديث ، فهاهي قلوب بعضنا مشحونة على بعض ، مملوءة غشا وحسدا وغلا ـ والعياذ بالله .
صار المسلم ، يسمي غشه لأخيه المسلم مهارة ، ويعتبره ذكاء منه ، أما الحسد ـ فحدث ولا حرج ، صار المسلم يحسد على الماء الذي يشربه ، والبيت الذي يسكنه ، والسيارة التي يركبها !
يقول أحدهم ـ وكان لي حديث معه عن الحسد ـ يقول أنا لا أحسد أحدا ! قلبي ـ ولله الحمد ـ ليس فيه من الحسد مثقال ذرة ، يزكي نفسه ! فسألته : لو رأيت جارك ، هذا الذي صار بينك وبينه بعض الخلاف ، إما على موقف سيارة ، أو على أذى طفل ، رأيته وقد سكن بيتا جديدا ، واشترى سيارة فارهة ، ماذا ستفعل ، وماذا ستقول ؟ قال : لا أنام الليل ! فقلت هذا هو الحسد ، نعوذ بالله منه .
فالغش وكذلك الحسد ـ أيها الأخوة ـ من أمراض القلوب ، التي وإن لم تكن ظاهرة ، إلا أنها موجودة ونتائجها ملموسة محسوسة ، تأملوا : قضية منع القطر من السماء ، صار الناس يتمنون الغيث وينتظرونه كل عام ، ويخرجون من أجله للاستسقاء ، ولكنهم لا يرون غيثا ، بل يجدون قحطا وجدبا ورياحا زاحفة ، وهذا من نتائج مرض القلوب والعياذ بالله .
حسد المسلمون بعضهم ، فأكل بعض الأغنياء حق الفقراء ، بمنع الزكاة . واستغل بعض الأثرياء ، حاجة المساكين ، فظهر الربا ، والرسول r يقول في الحديث : ((ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنين )) أي : بالقحط ، وبالدَّين.
وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه والبيهقي ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أقبل علينا رسول الله r فقال : (( يا معشر المهاجرين ، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن ، لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ، ولم يَنْقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم ، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ((
فلنتق الله ـ أيها الأخوة ـ ولنطهر قلوبنا من غش وحسد إخواننا ، فو الله لا يؤمن ، والله لايؤمن ، والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، كما جاء عن نبيكم r في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
اهتمام المسلم بقلبه ، ومعالجة أمراضه ، ومكافحة ما يصيبه من أدواء : من أوجب الواجبات ، وألزم المهمات ، لأن المسلم بصلاح قلبه يصلح جسده ، وبفساد قلبه فساد جسده ، يقول النبي r في الحديث المتفق عليه : (( وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) فصلاح الجسد بصلاح القلب ، وفساده بفساده ، بشهادة النبي r . ولذلك ـ أيها الأخوة ـ فساد العيون ، وفساد الآذان ، وفساد الفروج ، وفساد البطون ، وفساد بقية الجوارح ، سببه فساد القلوب . نسأل الله السلامة والعافية .
أيها الأخوة المؤمنون :
الله U ، لا ينظر إلى الناس لصورهم ولا لأشكالهم ، ولا لمراتبهم ومرتباتهم وأرصدتهم ، إنما ينظر U إلى قلوبهم ، يقول النبي r في الحديث الذي رواه مسلم : (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) فالقلوب هي محل التقوى ومعادن الرجال ، والأعمال هي ميزان العباد عند الله تعالى كما قال U : } إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {
.فعجب ـ أيها الأخوة ـ حيث يهتم أكثرنا بموضع نظر الخلق ، فيغسله وينظفه من الأوساخ والأقذار ، ولا يهتم بقلبه الذي هو محل نظر خالقه ، فيطهره ويزينه .
اسأل الله U أن يصلح قلوبنا ، ويطهر ألسنتنا ويستعمل جوارحنا في طاعته إنه سميع مجيب .
ألا وصلوا على البشير النذير ، والسراج المنير كما أمركم بذلك اللطيف الخبير ، فقال جل من قائل عليما : } إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً { وفي الحديث عنه r قال : (( من صلى علي صلاة واحده صلى الله عليه بها عشرا ))
فاللهم صلي وسلم وزد وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وارض اللهم عن التابعين ، وتابعي التابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بعفوك وغفرانك ورحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم احمي حوزة الدين ، اللهم اجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا ، وسائر بلاد المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا ، واستعمل علينا خيارنا ، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين .
اللهم وفق إمامنا ، وولي أمرنا ، خادم الحرمين الشريفين لهداك ، واجعل عمله برضاك ، وارزقه البطانة الصالحة ، التي تدله على الخير وتعينه عليه ، واصرف عنه بطانة السوء يارب العالمين .
اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا بسوء ، أو بما لا يرضيك ، أو بما يخالف كتابك وسنة نبيك r ، اللهم اشغله بنفسه ، واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره سببا لتدميره يارب العالمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|