التِّجاراتُ التي لا تَعْرِفُ الخَسارَةِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الْمُسلِمون:
اتَّقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أَنَّ أَعْظَمَ
التِّجاراتِ وأَجَلَّها وأَعْلاها: التِّجارَةُ
مَعَ اللهِ، فَإنَّها تِجارَةٌ مَضْمُونَةٌ، يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكْسَدَ أَوْ
تَخْسَرَ، لِأَنَّ الضَّامِنَ فِيها هُوَ اللهُ جَلَّ جَلَالُه. بِخِلافِ تِجارَةِ
الدُّنْيا، فَإنَّها غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وإذا أَلْهَتْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ
وَطاعَتِهِ، فَهِيَ الخَسارَةُ الحَقِيقِيَّةِ، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ، فأَخْبَرَ اللهُ، أَنَّ تِجارَةَ
الدُّنْيا، حَتَّى لَوْ رَبِحَ فِيها العَبْدُ، وزادَتْ أَرْصِدَتُهُ، وَصارَ مِن
الأَثْرِياءِ، فَإنَّها إذا أَلْهَتْ عَن التجارَةِ مَعَ اللهِ، فَهِيَ الخَسارَةُ
الحَقِيقِيَّةُ.
وَمِنْ أَعْظَمِ
التِّجاراتِ التي يَسْتَحِيلُ أَنْ تَخْسَرَ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَعْرِفَ
الخَسارةَ: تِلاوَةُ القُرآنِ، وإقامُ
الصَّلاةِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ والعَلانِيَةِ، وَقَدْ جَمَعَ اللهِ هذه
الثَّلاثَ في آيَةٍ واحِدَةٍ فَقال: ( إِنَّ
الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ).
فَالأُولَى:
هِيَ تِلَاوَةُ القُرْآنِ، كُلامِ اللهِ، أفْضَلِ الكَلامِ، وأَحْسَنِ
الحَدِيثِ وأَصْدَقِهِ وأَعْذَبِهُ، والذِكْرِ الحَكِيمِ، والصِّراطِ
المُسْتَقِيمِ، وحَبْلِ اللهِ المَتِينِ، الذي لَوْ طَهُرَتْ القُلُوبُ حَقًّا ما
شَبِعَتْ مِنْه. فَأَخْبَرَ اللهُ أَنَّهُمْ يَتْلُونَه،
أيْ: يَتَّبِعُونَهُ فِي أَوامِرِهِ فَيَمْتَثِلُونَها، وَفِي نَوَاهِيهِ
فَيَتْرُكُونَها، وَفِي أَخْبارِهِ، فَيُصَدِّقُونَها وَيَعْتَقِدُونَها، وَلَا
يُقَدِّمُونَ عَلَيْه ما خالَفَه مِنْ الأَقْوالِ. وَيَتْلُونَ أَيْضًا
أَلْفَاظَهُ، ويَجْتَهِدُونَ في تَعَلُّمِهِ، دِراسَةً وَفَهْمًا. وَحَسَناتُهُمْ
لا يُحْصِيها إلا اللهُ بِسَبَبِ كَثْرَةِ تِلاوَتِهِ، فَإنَّ كُلَّ حَرْفٍ فِيهِ
بِعَشْرِ حَسَناتٍ.
والتِّجارَةُ
الثانِيَةُ: قَوْلُه: ( وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ )، وَلَمْ يَقُلْ: وَأَدَّوْا
الصَّلاةَ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الفِعْلِ الظَّاهِرِ يَشْتَرِكُ فيهِ الْمُؤْمِنُ
والْمُنافِقُ، والْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ، والْمُخْلِصُ والْمُرائِي. وأَمَّا الإِقامَةُ: فَالْمُرادُ بِها أداءُ حُقُوقِ
الصَّلاةِ، بِتَدَبُّرِ أَذْكارِها، وتَطْبِيقِ أَحْكامِها، وأَدائِها مَعَ
الجَماعَةِ في الْمَسْجِدِ. فَهِيَ عِمادُ الدِّينِ، وَنُورُ الْمُسلمين،
وَمِيزَانُ الإيمانِ، وعَلامَةُ صِدْقِ الإسلامِ.
والتِّجارَةُ
الثالِثَةُ: النَّفَقَةُ فِي السّرِّ والعَلَنِ، عَلَى الأَقارِبِ والْمَساكِينِ
والأَرامِلِ واليَتَامَى وغيرهم، وَهَذِهِ النَّفَقَةُ شامِلَةٌ لِلْواجِبِ والْمُسْتَحَبِّ،
قال تعالى: ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )، فَيَنْبَغِي
لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُنَوِّعَ في طَرِيقَةِ النَّفَقَةِ، بِأَنْ يَجْعَلَها فِي
جَمِيعِ الأَوْقاتِ، وَفِي السِّرِّ والعَلَنِ، كَيْ يَنالَ الفَضْلَ المَذْكُورَ
في الآيَةِ.
وَهَذِهِ
التَّجاراتُ الثَّلاثُ الْمَذْكُوراتُ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ، قَدْ
وَرَدَتْ الإِشارَةُ إلَيْها أيْضًا في قَوْلِهِ تَعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ
تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء
الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ )
، فَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى، أَنَّ الذي يُسَبِّحُ فِي هذه المَساجِدِ
وَيُحْيِيها، رجالٌ !!!
وأيُّ
رِجالٍ؟! إِنَّهم الرِّجالُ الحَقِيقِيُّونَ.
رِجالٌ
لا
تُشْغِلُهُمْ الدُّنْيا ولا فِتْنِتُها، وَلَا مَكاسِبُها، وَلَا زِينَتُها، عَنْ
هذه التِّجاراتِ الثَّلَاثِ: 1- ذِكْرُ اللهُ، وأَعْظَمُهُ القُرْآنُ. 2- وإِقامُ
الصلاةِ في المَساجِدِ. 3- والنَّفَقَةُ التي أَعْظَمُها وأَوْجَبُها الزَّكاةُ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً
. أَمّا بَعدُ
عِبادَ
الله: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الصَّوارِفِ عَنْ تَحْصِيلِ الأُجُورِ والاسْتِكْثارِ
مِنْها:
تَعْظِيمَ الدُنْيا وَرِبْحَها، وإيثارَها عَلى الآخِرَةِ، ولِذلكَ أَخْبَرَ
النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ صَلاةِ
الجَماعَةِ، لَوْ أُعْطُوا عَلَى الصَّلاةِ هَدِيَّةً دُنْيَوِيَّةً، ما
تَخَلَّفُوا عَن الصلاةِ، كَمَا في قَوْلِهِ: ( والذي
نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّه يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ
مِرْماتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ العِشاءَ ). والعَرْقُ السَّمِينُ:
هُوَ العَظْمُ الذي فِيهِ لَحْمٌ. والْمِرْماتَيْنِ، هُما سَهْمانِ صَغِيرانِ
يُسْتَعْمَلانِ في الرِّمايَةِ والصَّيْدِ. أَيْ لَوْ يَضْمَنُ الْمُتَخَلِّفُ عَن
الصلاةِ، أَنَّه إذا صَلَّى مَعَ الجَماعَةِ حَصَلَ عَلَى هذا الْمَكْسَبِ
الدُّنْيَوِيِّ مَعَ قِلَّتِهِ، لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْها، لِأَنَّ تِجارَتَه
لَيْسَتْ مَعَ اللهِ، ولَيْسَتْ مِنْ أَجْلِ الآَخِرَةِ، وإِنَّما هِيَ
لِلدُّنْيا.
تَأَمَّلُوا
يا عِبادَ اللهِ: لَوْ جُعِلَتْ مُحَفِّزاتٌ
دُنْيَوِيَّةٌ عَلَى صَلاةِ الجَماعَةِ، بِحَيْثُ مَنْ صَلَّى صَلاةً، أُودِعَ في
حِسابِهِ خَمْسُ رِيالاتٍ! كَيْفَ سَتَكُونُ أَحْوالُ الناسِ مَعَ هذه الصلاةِ؟ لا
شَكَّ أَنَّ الناسَ سَيَرَوْنَ النَّفِيرَ الجَماعِيَ، كِبارًا وَصِغارًا،
وَذُكُورًا وإِناثًا. وَسَوْفَ نَرى تَشْدِيدَ الآباءِ عَلَى أَوْلادِهِم، مِنْ
أَجْلِ إيقاظِهِمْ ومُحافَظَتِهِمْ عَلَى الصلاةِ، حَتى لَوْ وَصَلَ الأَمْرُ إلى
الضَّرْبِ والتَّأْدِيبِ.
وَهَكذا لَوْ
جُعِلَ عَلَى تِلَاوَةِ القُرْآنِ، لِكُلِّ آيَةٍ رِيالٌ واحِدٌ، فَلا
يُسْتَبْعَدُ أَنَّكَ لا تَرَى الناسَ يَتَحَدَّثُونَ مَعَ بَعْضِهِمْ إلا عِنْدَ
الضَّرُورَةِ، لِأَنَّهُمْ مَشْغُولُونَ في تَكْثِيرِ الأَرْصِدَةِ.
فاتَّقُوا
اللهَ أيُّها الْمُسلِمُونَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدُّنْيا
لا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ، وأَنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ وأَبْقَى،
فَاجْعَلُوها هَمَّكُمْ، واسْعَوْا لَهَا سَعْيَها.
اللَّهُمَّ
لا تَجْعَلِ الدُّنْيا أَكْبَرَ هَمِّنا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلا
تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا، الَّلهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْواها،
وَزَكِّها أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاها، اللهمَّ أَعِنَّا على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ
وحُسِنِ عِبَادَتِكَ، اللهم خلصنا من حقوقِ خلقَك، وباركْ لنَا في الحلالِ من رزقِك،
وتوفَنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم
أصلح أحوال المسلمين، اللهم أنزل على الْمسلمين رحمة عامة وهداية عامة، اللهم
أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك
المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن الْمستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ
بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم
عليك بأعدائها في الداخل والخارج، اللهم أخرجها من الفتن والشرور والآفات، واجعلها
أقوى مما كنت، وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت، وأصلح مما كانت، اللهم أصلح حكامها
وأهلها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا واحدة على من عداهم يا قوي يا
عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
إنك سميع قريب مجيب الدعوات، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ).
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|