تَصَرُّفاتُ
العِبادِ نَوْعانِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ
ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ:
اتقُوا اللهَ تَعالى، واعلَمُوا أَنَّ تَصَرُّفاتِ
العِبادِ في أَقْوالِهِم وأَفْعالِهم: نَوعان:
الأَوَّلُ:
عِبادَاتٌ يَصْلُحُ بِها دِينُهُم.
والثانِي: ما
لَيْسَ بِعِبادَةٍ، مِن العاداتِ والْمُعامَلاتِ وَكُلِّ ما
يُنْتَفَعُ بِهِ وَيَحْتاجُه الخَلْقُ مِنْ أُمُورِ الدنيا.
فَأَمَّا الأَوَّلُ وَهُوَ العِباداتُ: فالأَصْلُ فِيها، المَنْعُ والتَوَّقُفُ والتَّحْريمُ،
فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ كائِنًا مَنْ كانَ، أَنْ يَأْتِيَ بِعِبادَةٍ،
إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِها. لِأَنَّه دِينُ اللهِ وَحْدَه،
فَالتَّشْرِيعُ حَقٌّ خاصٌّ للهِ، شَرَعَهُ عَلَى لِسانِ رسُولِهِ صلى اللهُ
عِلَيْهِ وسلم، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبادِهِ أَنْ أَغْلَقَ البابَ
دُونَ العِباداتِ حَتى لا يَضِيعَ أَمْرُها بَيْنَ الناسِ.
قال تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ). وقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ( مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ). وَلِذلك قال السَّلَفُ: " مَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً يَرَى أَنَّها حَسَنَةً فَقَد زَعَمَ
أَنَّ مُحَمدًا صلى الله عليه وسلم خانَ الرِّسالَة ". فالعِباداتُ بابُها ضَيِّقٌ،
ومَبْناهَا عَلى التَوقيفِ، في تَشْرِيعِها،
وكذلكَ أَيْضًا في أدائِها، ولِذلكَ لا تُقْبَلُ مِن العَبْدِ إلا إذا
أدَّاها كَما شُرِعَت.
وأَمَّا النَّوْعُ الثانِي: ما لَيْسَ بِعِبادَةٍ، مِن العاداتِ والْمُعامَلاتِ والعُقُودِ والْمَآكِلِ
والمَشارِبِ والْمَلابِسِ، والصَّنائِعِ والْمُخْتَرَعاتِ،
والوَسائِلِ التي يُسْتَعانُ بِها عَلى مَصالِحِ العِبادِ في دِينِهِم ودُنْياهُم
وَكُلِّ ما يَنْتَفَعُونَ بِهِ. قال تعالى: ( وَسَخَّرَ
لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ )، وقال تعالى: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا )، فَهُو عَكْسُ النَّوْعِ الأَوَّلِ،
فَإِنَّ بَابَهُ واسِعٌ, لِأَنَّ الأَصْلَ فِيهِ هُو الإِباحَةُ والحِلُّ،
وَلَيْسَ الْمَنْعُ، فَلا يَجُوزُ لِأَحَدٍ كائِنًا مَنْ كانَ،
أَنْ يُحَرِّمَ شَيْئًا مِنْ ذلكَ إلا بِدَلِيلٍ من القُرْآنِ والسُّنَّةِ. وَمَنْ
حَرَّمَ شَيْئًا مِنْها لَمْ يُحَرِّمْه اللهُ ورسولُه، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ
جاهِلٌ.
فالأَوَّلُ مَمْنُوعٌ إلا بِدَلِيلٍ. والثانِي مَسْمُوحٌ
ومَفْتُوحٌ إلا بِدَلِيلٍ يُحَرِّمًه.
أَيُّهَا المسلمونَ: إِنَّ هذا التَّأْصِيلَ الذي سَمِعْتُمُوه، هُوَ دِينُ اللهِ الوَسَطُ بَيْنَ أَهْلِ
الضَّلالِ. وهُوَ الهُدَى بَيْنَ ضَلالَتَيْنِ، ضَلالَةِ أَهْلِ البِدَعِ،
وضَلالَةِ الْمُتَفَلِّتِينَ عَلى الأَدِّلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.
فالضَّلالَةُ الأُولَى: ضَلالَةُ أَهْلِ البِدَعِ،
الذينَ أَدْخَلُوا في دِينِ اللهِ ما لَيْسَ مِنْهُ،
مِنْ صَلَواتٍ مُحْدَثَةٍ، وأَذْكارٍ مُخْتَرَعَةٍ، وطُقُوسٍ
مُرْتَبِطَةٍ بِبَعْضِ الْمُناسَباتِ الدِّينِيَّةِ زَعَمُوا،
كالاحْتِفالِ بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِي، ولَيْلَةِ الاسْراءِ والْمِعْراجِ،
والبِناءِ عَلى القُبُورِ، وإدْخالِها في الْمَساجِدِ،
والصَّلاةِ عِنْدَها أَوْ إلَيْها. وقَد تَكُونُ شِرْكَّا أَكْبرَ والعِياذُ
بِاللهِ،
كَدُعاءِ الأَمْواتِ، والاسْتِغاثَةِ بِهِم،
والتَبَرَّكِ بِتُرْبَتِهِم. فَهَؤُلاءِ ضَيَّعُوا دِينَهُمْ،
وتَعَبَّدُوا بِما لَمْ يَشْرَعْهُ اللهُ، وَزَيَّنَ لَهُم الشَّيطانُ ذلكَ في قالَبِ
الخَيْرِ والعِبادَةِ. وَلِهذِهِ البِدَعِ والضَّلالاتِ،
أُناسٌ لا يَأْلُونَ جُهْدًا في نَشْرِها والدَّعْوَةِ إلَيْها، وبَذْلِ
الأَمْوالِ في ذلك، واسْتِغْلالِ ضُعَفاءِ العِلْمِ والنُّفُوسِ،
وحَثِّهِمْ عَلى فَضْلِها، بِأسالِيبِهِمْ الشَّيْطانِيَّةِ والْماكِرَةِ.
كَقَوْلِهِم: لَوْ كانَ الاحْتِفالُ بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ بِدْعَةً،
فَلِماذا لا تُحَرِّمُونَ مُكَبِّراتِ الصَّوتِ في الصَّلاةِ والخُطَبِ؟ ولِماذا
لا تُحَرِّمُونَ الاسْتِماعَ إلى القُرْآنِ والْمَواعِظِ،
عَبْرَ أجْهِزَةِ التَّسْجِيلِ والوَسائِلِ الْمَرْئِيَّةِ،
وغَيْرِ ذلكَ مِن حِيَلِهِم وتَلْبِيسِهِم. مُسْتَغِلِّينَ ضَعْفَ العِلْمِ
والتَّأْصِيلِ لَدَى كَثيرٍ مِن الْمُسلِمين. وَلِذلك تَجِدُونَ كَلَّ مَنْ عَرَفَ
دِينَه عَلى الوَجْهِ الصحيحِ، وتَأَصَّل بِأُصُولِ العِلْمِ،
وَعَرَفَ أَنَّ الأَصْلَ في العِباداتِ هُوَ المَنْعُ،
والأَصْلَ في غَيْرِها هُوَ الحِلُّ إلا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلى التحريمِ،
تَجِدُونَهُ ثابِتًا أَمامَ مِثْلِ هذِه الشُّبُهاتِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْـحمدُ للهِ ربِّ
العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين،
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ
مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ الله: وأَمَّا الضَّلالَةُ الثانِيَةُ: فَهِيَ ضَلالَةُ الْمُتَفَلِّتِينَ
عَلَى النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ، والْمُتَمَرِّدِينَ عَلَى القُيُودِ
الشَّرْعِيَّةِ، الذينَ يَعْمَدُونَ إلى تَطْوِيعِ أحكام
الشَّريعَةِ، وأَدِلِّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، إلى
ما تُمْلِيهِ أَهْواؤُهُم، وأَنَّ التَمَسُّكَ بِمَا كانَ عَليْهِ
النبيُّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلمَ وأصْحابُهُ، ظَلَامِيَّةً وَرُجُوعًا إلى الوَراءِ. حَيْثُ
عَكَسُوا ما طَلَبَهُ اللهُ مِنْهُمْ. فإنَّ اللهَ نَهانَا أَنْ نَنْشَغِلَ
بِدُنْيانَا عَنْ دِينِنَا. وَهَؤُلاءِ يَنْهَوْنَ عَن الانْشِغالِ بِالدِّينِ عَن
الدُّنْيا. فالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَن الْمُنْكَرِ، يَكْبِتُ
الحُرَّيَةَ حَتى فِيما يَتَعَلَّقُ بِإِصْلاحِ الرَّجُلِ لِأُسْرَتِهِ
وقِوامَتِهِ عَلَى نِسائِهِ. والحَجابُ عادَةٌ اجْتِماعِيَّةٌ،
ولَيْسَ دِينًا وشِعارًا لِلْمَرْأَةِ أَمَرَها اللهُ بِهِ. وتَطْبِيقُ الحُدُودِ
لابُدَّ أَنْ يُعادَ النَّظُرُ في تَطْبِيقِ بَعْضِ صُوَرِهِ.
فاتَّقُوا
اللهَ أَيُّها الْمُسْلِمُون، وتَمَسَّكُوا بِدِينِكُمْ،
وبِالأُصُولِ العِلْمِيَّةِ المَبْنِيَّةِ عَلى الأَدِلَّةِ. وتَذَكَّرُوا هذه
القاعِدَةَ العَظِيمَةَ: ( الأَصْلُ في العِباداتِ
التَحْريمُ، حَتى يَأْتِيَ ما يَدُلُّ عَلى مَشْرُوعِيَّتِها. والأصْلُ في غَيْرِ
العِباداتِ الإباحَةُ، حَتَّى يَأْتِيَ ما يَدُلُّ عَلى تَحْرِيمِها ).
اللهمَّ عَلِّمْنا ما يَنْفَعُنا، وانْفَعْنا بِمَا عَلَّمْتَنا، وفقّهنا
في دِينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الفِتَنِ ما
ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا
وارزقنا اجتنا يا رب العالمين. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام
قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين يا رب العالمين،
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح
لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من
كل شر، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين
وأذلَّ الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم
احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم وفق ولاة أمرنا بتوفيقك
وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا ذا
الجلال والإكرام، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|